الفصل الأول: أضواءٌ في المدينة

الفصل الأول: أضواءٌ في المدينة

كانت المدينة في تلك الليلة كحبة لؤلؤ مُنعكسة على صدر الليل

من شرفات الطبقة المتوسطة، تراصّت البيوت بين قديم وجديد؛ النوافذ مغلقة على وهج شاشات زرقاء، كأنها تحكي أسرارًا لا تُقال. في كل بيت، أطفال ينحنون على أجهزتهم؛ أصابعهم تلهو على الزجاج البارد، وأرواحهم تستيقظ بين ألوان الألعاب والفيديوهات في ليلٍ محايد لا يعترف بوقت نوم أو طمأنينة. أهل الحي يشبهون آلاف الأسر، لا فقر يقتل الأمل ولا غنى يغرق بالحيرة، بل كدح ومستورة ووجوه تطارد أقساط الدراسة وثمن الخبز، وأحلامًا صارت أرخص وأسرع كلما اقتربت من الشاشة.

 

في وسط الساحة الكبرى، لوحة إلكترونية تومض وتنبض… دوائر وألوان وسلاسل متشابكة تقذف رسائل غامضة لا يقرأها إلا الأطفال المتعبون من الانتظار. في نافذة مضيئة، جلس “سامي” في طرف السرير، يتأمل هاتفه الجديد الذي أحضره له والده.

 

طفل مثل أغلب أبناء الحي، يحلم بالبطولة، ويخاف ملل الأيام، يقبض على هاتفه الجديد بقلب نهم وكأنه أخيرًا وجد تذكرة عبور لعالم لا يعرف فيه أحد حدوده.

الفصل الثاني: سامي والهاتف الجديد

الفصل الثاني: سامي والهاتف الجديد

لم يكن سامي يصدّق أنه أخيرًا أمسك بجهازه الخاص، هدية النجاح من والده. في غرفته الصغيرة الممتلئة بالصور والألعاب، جلس فوق سريره، تتراقص في قلبه طاقة جديدة وسعادة تشبه جناحي فراشة تهتز بين النور والظلال.

مرت الأيام وانغمس سامي في شتى تطبيقات الهاتف، لعبةٌ تلو لعبة، فيديو يعقبه فيديو، يبحث عن خط النهاية كسلحفاة تُطارد فوتونات الضوء؛ يلهث متعبًا لكن شيئًا في أعماقه لا يعرف التوقف.

وذات مساء، وبينما يعبث بقائمة الألعاب، ظهر فجأة تطبيق جديد لم يتذكر أنه نزّله من قبل، اسمه “تحدي الملوك”.
كانت الأيقونة تلمع بلون أخضر داكن وأرجواني، تتوسطها علامة شطرنج، وفيها مربعات سوداء وبيضاء وجنود جامدة بلا عيون.

لم يستطع سامي مقاومة فضوله، فضغط عليها بحذر. فغاصت الشاشة في موجة من الضباب الرقمي، وتعالى صوت موسيقى باردة، ثم ومضت عبارة بلون أحمر صارخ:
“هل أنت مستعد لدخول لعبة الملوك؟ هذه ليست لعبة مخصصة للأطفال!”

شعر سامي بقشعريرة تسري في ذراعه، لكنه ابتسم ابتسامة التحدي. كان التحذير بالنسبة لطفل مثله أشبه بصب الزيت فوق نار الفضول، فجعل الشغف يشتعل أكثر.

قال في نفسه: “فليكن! أحب التحدي مهما كان غامضًا”.

فجأة ظهرت رسالة ثانية، بخط أكبر ووميض يزداد:
“سوف يبدأ العد العكسي من 10 إلى 0… هذه فرصتك الأخيرة، ولا يمكنك التراجع بعد ذلك. هذا المحتوى شديد الخطورة وسوف يترك أثراً غير قابل للـ…”

لكن سامي لم يكمل القراءة، فقد كان العد العكسي يهبط بسرعة: 3… 2… 1… 0

شاشة الهاتف امتلأت بأشكال هندسية تتحرك في دوامات حلزونية، ألوان داكنة تدور حول نقطة مركزية، تشد عينيه وتسحب روحه ببطء، حتى أحس أن سريره يبتعد وأنه يسقط في نفق مظلم من البرمجيات الغامضة.
ثم ظهرت رسالة أكثر غموضًا:
“مرحبًا أيها المغامر الصغير… يبدو أنك عنيد وتحب كسر القيود، برغم أن وجودك هنا مخالف لقوانين اللعبة. لكن اللعبة أيضًا ترحب بالمغامرين الشجعان!”

برز في منتصف الشاشة مفتاح مرسوم عليه جمجمة برّاقة، مكتوب تحتها بحروف مرتعشة:
NO WAY OUT – لا مخرج

شعر سامي أن أصابعه تتحرك وحدها. لم يستطع كبح نفسه رغم صراخ داخلي صغير ينبهه للخطر، وضغط الزر…!
وفي تلك اللحظة، أحس وكأن كل نبض في قلبه يمتزج بين خوف لذيذ وتشويق لا يقاوم…
هكذا بدأت المغامرة، أول خطوة في بوابة عالم لا يشبه ما كان يعرفه من قبل.

الفصل الثالث: مهرجان اللعبة… الفرح الذي لا يدوم

الفصل الثالث: مهرجان اللعبة… الفرح الذي لا يدوم

لم تمر دقائق قليلة منذ انطلاق سامي في لعبة “تحدي الملوك” حتى استبدل كل مشاعر الانتظار والملل بموجة من اندفاع لا يوصف.
بدت له اللعبة ورقة بلا حدود: أصوات ساحرة، صور تلمع فيها المربعات والأحصنة والملوك والبيادق، وجوائز افتراضية تتساقط عند اجتياز كل مرحلة.

كل تحد كان رائعاً، زاد نبض قلب سامي كلما صعد إلى مستوى جديد ، وهمست اللعبة له: أحسنت أيها البطَل… هل تقدر على المستوى الأصعب؟
تنهال الألوان حوله كشلال من الألعاب النارية. يسمع جرس المرحلة: مبروك! أنت أسرع مما تخيل صانعو اللعبة!

وفي هذا الزخم، كان سامي يقفز ويضحك وحده أمام الشاشة. كلما ربح تحدِّياً افتراضياً، شعر كأنه أحرز كأس بطولة حقيقي! نسي تمرين الرياضة، نسي الرسم، صار وعاء سعادته كله مختصرًا في سباق البيادق على الرقعة الغامضة. وفجأة صار الهاتف صديقه المقرب.

وفي المساء كان ينادي أمه بفخر:هل تعلمين يا أمي؟ أنا اليوم فزتُ على كل اللاعبين! تخيلي، تقدمت إلى المرحلة السابعة بدون ولا خطأ!
تلمع عينا الأم بنصف فرح ونصف قلق، تباركه وتقول :أنت بطل يا سامي فقط، لا تنسَ واجبك وهواياتك يا صغيري.
لكن سامي لم يكن يسمع سوى ألحان التصفيق التي أطلقتها اللعبة بالفوز الجديد، ورسائل: ابدأ المعركة القادمة! أنت على وشك اكتشاف لغز الفرسان المسحورين!

وصارت اللعبة كل عالمه: يمرح وينجح، ثم كلما انتهت جولة، لاح له تحدي جديد يجذبه أبعد… وأبعد، ولم يشعر أنه يقترب من بوابة لم يكن يتوقع ما ينتظره خلفها أبداً.

وفي المدرسة بدا اليوم أكثر إشراقًا، راح يحكي لرامي عن دهشته من الأسرار الصغيرة في اللعبة، وكيف توجد ألغاز في كل زاوية، وابتكر أسماء مضحكة لبعض اللاعبين الافتراضيين الذين واجههم.
صار الهروب إلى مغامرة رقعة الشطرنج في تحدي الملوك ينثر شرارات خيال جديدة في حياته، شيئًا فشيئًا، اصبح يستعجل العودة للهاتف، وكان يستأذن من حياتة المعتاده أكثر من مرة ليكمل تحديات جديدة.

وفي مساء يوم جمعة، حين كانت الأسرة تجتمع عادة لمشاهدة فيلم وثائقي، صاح سامي على الجميع: أرجوكم خمس دقائق فقط! بقي لي خطوة صغيرة على الزعيم الأسود… بعدها أشارك معكم الفيلم!

وافق الجميع ضاحكين من شغفه المؤقت، بينما كان الأب ينظر الي الام و يقول: كل الأولاد يمرون بمرحلة هوس مؤقت بالألعاب.
لكن في عمق قلب الأم، تساءلت عن سرّ هذه الشرارة المفاجئة، وهل ستبقى فَرَحًا… أم أن لها ظلًا لم تره بعد.

وهكذا، صار كل يوم يحمل لسامي لحظات من النشوة والفخر بالإنجازات، ويغمر البيت بقليل من الإثارة وجو من الدعابة الجديدة، وكان يتوهم أن هذه السعادة ستدوم إلى الأبد, لم ينتبه أن خلف كل جولة، كانت موسيقى اللعبة تُصبح أكثر بطئًا، وألوانها أكثر بردًا، وضحكته أكثر وهنًا وهي تغادر صدره.

الفصل الرابع: حين يتوارى الضوء خلف الغيوم

الفصل الرابع: حين يتوارى الضوء خلف الغيوم

خلف وهج الشاشات الساطعة، كانت هناك أم تراقب بحذر، يتسلل القلق إلى قلبها وهي ترى التكنولوجيا تسرق من ابنها بريق طفولته .إلى جوارها يقف أبٌ يتطلع بصمت وينتظر أن تعود ضحكة سامي التي صارت تبهت وتختفي شيئًا فشيئًا في زحمة الأزرار والأضواء.
كلاهما يبحث في زوايا البيت عن صدى تلك اللحظات الدافئة التي كانت تملأ المكان بالحياة، ويشعران أن التكنولوجيا تسحب، في صمت، الفرح من حضن يومهم، وتتركه يتوارى خلف سطوع رقمي لا يرحم.

بدأ الفرح ينسحب من أيام سامي كقطرة لونٍ تتلاشى على صفحة ماء راكد.
صار وميض الحياة سلسلة ألوان زاهية تبهت مع كل حركة إصبع على شاشة الهاتف. ولم يعد يعرف متى تمامًا تبدّد ذلك الحماس الصافي في قلبه، متى اختفت لذة الانتصارات وتحول طعم الفوز إلى حلاوة بلا حياة بل صار مثل طعم الحلوى القديمة: لذيذًا من الخارج، فارغًا، بلا معنى من الداخل.

باتت التحديات التي كان ينتظرها بالأمس تُشبه فروض الدراسة الثقيلة.
صار زر البداية أشبه بقرعٍ على باب الإرهاق؛ يُشعل بضغطته وجع العيون، ويُثقل الرأس بلحن اللعبة الذي صار أبطأ، أبرد، كأن الموسيقى تنعاه لا تُهنئه.

ومع مرور الأيام، أصبح سامي يتحدّث مع صديقه رامي أقل بكثير من قبل.
أمه تلاحظ أنه صار صامتًا أكثر، ويراقبها من بعيد كأنه يُخفي شيئًا في داخله لا يعرف كيف يشرحه .وعندما يدعوه والده للعب أو الخروج في نزهة، كان سامي يختلق أعذارًا، فيقول إنه مشغول ببحث للمدرسة أو يريد التركيز في حل بعض المسائل الرياضية.

أصبح يمشي في البيت بهدوء، ولم تعد ضحكته تظهر مثل السابق. حتى إذا ذهب إلى الحديقة، يقف هناك دون أن يلهو أو يتكلم مع أحد، وكأنه يبحث عن نفسه ولا يجدها.

وفي بعض الأحيان، كان ينظر إلى نفسه في المرآة ويلاحظ أن وجهه تغيّر؛ عيناه متعبتان، وألوان رسوماته على الدفاتر صارت باهتة.
كان يسأل نفسه :لماذا صارت الدنيا مملّة فجأة؟ أين ذهبت الفرحة التي كان يشعر بها في الأيام الأولى؟

لماذا أصبحت اللعبة التي كان يحبّها تُتعبه بدلًا من أن تُسعده؟
هل سرقته اللعبة… أم أنه هو من فتح لها الباب؟
كلما أغلق سامي اللعبة، كان يسمع صوتًا داخليًا يشجعه على العودة:
“هناك مغامرة جديدة تنتظرك! ربما يوجد لغز لم تحله بعد”
حاول سامي أن يقاوم، لكنه كان في كل مرة يشعر أن رغبته في اللعب تزداد،
كأن اللعبة تمسكه ولا تتركه.

حتى في أحلامه، بدأت تظهر له صور رقعة الشطرنج وأشكال غريبة تملأ غرفته، وكأن هذه اللعبة تلاحقه حتى وهو نائم.
في ليلة من الليالي، شعر وكأن صوتًا خافتًا يهمس له:

“لن تستطيع الهروب الآن… كلنا أصبحنا جزءًا من اللعبة.”

استيقظ سامي وهو يشعر بالتعب، ليجد الهاتف تحت وسادته، وعيناه مثبتتان على ضوء شاشته الخافت، يتمنى لو تعود إليه الفرحة القديمة ويضحك كما كان من قبل.

في اللحظات التي كانت عينا سامي تسرحان في الشاشة، لم يكن يدرك أنه دخل متاهة أكبر من مجرد لعبة. وكأن “تحدي الملوك” ليست رقعة شطرنج وحسب، بل مصيدة ناعمة، نسجتها خيوط الإثارة والتهويل، حتى لم يعد يعرف أين ينتهي الواقع ويبدأ الوهم.

لم تكن هناك شِفرة حقيقية ليحلّها، ولا ملوك حقيقيون لينتصر عليهم. بل كانت اللعبة تتغذى على انتباهه، تكبر كلما صغُر عالمه، وتسحب منه تفاصيله الصغيرة: ضحكاته، قصصه، ألوان أحلامه، وكل ما كان يجعله “سامي” كما عرف نفسه من قبل.

وفي عمق عقله، كان هناك فراغ بدأ يتوسع… فراغ يشبه صمتًا مخيفًا داخل كهفٍ مضيء. لم تكن هناك دماء أو صرخات، بل شيء أخطر…!
تفككٌ بطيء لهويته، إحساس بأنه لا يعود يعرف نفسه دون شاشة، دون مكافأة، دون صوت يقول: “أحسنت يا بطل!”

أدرك، ولو للحظة، أن اللعبة لم تكن فقط تحديًا افتراضيًا، بل تجربة تُعيد تشكيل روحه من الداخل، تسلبه متعة الانتظار، وتُبدد صبره على الأشياء الحقيقية، وتُخدّره حتى يُصدّق أن الفوز يُقاس بالنقاط وأن البطولة تحدث عند اللمس لا عند الفعل.

في تلك الليلة، وبينما غفا وهو يضم الهاتف كدمية، تساءلت روحه الصغيرة في صمت: هل كنت ألعب اللعبة… أم أن اللعبة كانت تلعب بي؟

أما أمه، فكانت تراقب باب غرفته من الخارج، وتحاول عندما تراه أن تبتسم له وتعطيه دفء حبها، على أمل أن يشعر بذلك ويستعيد بعض سعادته. كانت تؤمن في قلبها أنه ما دام هناك حب في البيت، فلا يزال هناك أمل أن يعود سامي كما كان، ويخرج من هذا الظل الذي دخل فيه.

الفصل الخامس: الحلم الغامض

الفصل الخامس: الحلم الغامض

من يبيع النورَ بلحظة متعة… قد يستيقظ فريسة لظلالٍ لا تنتهي
من يضيع من نفسه… عليه أن يبحث عن النور في أعماق قلبه

في تلك الليلة البعيدة، كان البيت غارقًا في السكون، إلا من أزيز إلكتروني خافت ينكشف خلف باب غرفة سامي. أنهى سامي مستوى جديدًا في اللعبة، وابتسم لنفسه ابتسامة فخر ونشوة، لم يلبث أن خفت بريقها مع انطفاء الموسيقى.

الساعة تدق من بعيد… الثالثة صباحًا.

غفت أصابعه حول الهاتف وهو يحدق في دوامة النهاية.

 

فجأة، شعر كأن ألف باب يفتح نحو مسافة لا قرار لها… ثم سقط.

 

وجد سامي نفسه في قلب حلم مفتوح على اتساع العالم.

في البدء، كان يركض فوق تلة كان يعرفها يومًا وهو صغير.

الشمس تلامس وجهه، والريح تعبق بالرغيف الدافئ الذي كانت أمه تخبزه صباح العطلة. سمع صدى ضحكة أبيه البعيدة: “هيا… من يلحق بي أسرع إلى الحديقة اليوم!”

ورأى سلمى تلوّح بكرة صفراء وتصيح: “الأسرع يفوز بآيس كريم!”

في تلك اللحظة، شعر بالدفء، وملأته رغبة جامحة أن يعود كل شيء كما كان.

كاد يتوقف ليعانق الألوان، ليمتلئ بحياء الطفولة.

 

لكن الغيمة مرّت، وتبدّل الطقس فجأة… انسحب النور من دفاتر ذاكرته، وسقط سامي من التلة رأسًا في ضباب كثيف يخنق العينين.

فإذا به وحيدًا وسط رقعة شطرنج لا نهاية لها الأرض تنقسم لأبيض وأسود، كل مربع أشد قسوة من الآخر.

 

حاول الحراك، لكن قدميه تثبتتا في مربع أبيض بارد كالجليد.

الأفق بلا أطراف، جدران من ضباب كثيف، وأحجار عملاقة تلوح له من بعيد.

عيون الأحجار تنعكس أزرقًا كاللهب كل حجر له ابتسامة مائلة وصوت جوفي، يهمس في رأس سامي:

 

“كل خطوة تخطوها تفتح لك طريقًا جديدًا في هذه الرقعة الكبيرة. أمامك تحديات كثيرة وألغاز لم تُكشف بعد… هل أنت مستعد للمغامرة؟

تقدم خطوة واكتشف الأسرار التي لم يصل إليها أحد.”

 

همَّ سامي أن يصرخ. أراد أن ينادي أمه، أن يرتمي في حضنها.

في أذنيه، ترددت الكلمات التي كانت تقولها له في كل صباح:

 

“ابتسامتك تنير لي اليوم كله يا حبيبي.”

رأى وجه أمه في طرف الرؤية، تلوّح له من نافذة بعيدة، تضمه بالعين قبل القلب.

 

تقدم خطوة…

شعر بثقل غريب. الأحجار تمرُّ حوله، تحُول بينه وبين أمه.

ثم أقبل الملك الأسود؛ تاجه من شوك ونار، عيناه مرايا رمادية يرى فيهما نفسه شاحب الوجه، هزيل الجسد.

 

تقدم الملك الأسود نحو سامي، وصدى خطواته يدوي فوق الرقعة، عميقًا كهمس قديم يوقظ شيئًا نائمًا في الروح.

توقف أمامه، ونظر إليه بنظرة فيها وعد وسر، وقال بصوت عميق يشبه الريح المرسلة:

أحسنت يا سامي… لم يبقَ بينك وبين البطولة سوى خطوات قليلة. هنا، في هذا العالم العظيم، وحدهم الأقوياء يقتربون من عرش الملك.

هنا تبدأ الأسرار التي طالما بحثت عنها، هنا تكتشف الحقيقة التي لم يخبرك بها أحد في الخارج.

 

أترى كم أصبح كل شيء واضحًا وأنت تقترب من النهاية؟

 

العالم خلف الشاشات لم يكن سوى ظل باهت، أيام تتكرر بلا معنى، أما هنا، على رقعة اللعبة، تبدأ الحياة الحقيقية، وتولد الإرادة من جديد. في الخارج، كنت تتقن أدوارك الصغيرة: طفل وأخ وصديق. لكن هنا… هنا تصير بطلًا بحق، هنا تضع اسمك على عرش الأبطال، وتفتح لنفسك مفاتيح القوة والمعرفة. لا حاجة أن تفتش وراءك يا سامي… دع ذكرياتك القديمة تذوب خارج هذه الرقعة. كل مستوى تمر به يكسرك مرة، ويبنيك ألف مرة. كل لغز تحله يجمع قطعك المبعثرة، وكل تحدٍ، مهما طال، يقربك من النهاية الكبرى، حيث يصبح البطل ملكًا، ويُمنح من يثبت نفسه مفاتيح الأسرار العظيمة. سرُّ العالم الحقيقي ليس خارج اللعبة، بل بداخلك… وهنا فقط ستعرفه. هل تجرؤ أن تتخلى عن ماضيك القديم، وتصبح أنت الملك؟

 

تقدم… الباب لن يَفتح إلا لمن يجعل اللعبة عالمه الجديد.”

 

حينها علت أغنية غامضة من أعماق الرقعة:

عد… عد إلينا يا سامي

هنا لا يوجد زمن

هنا الأحجار تراقب حتى أنفاسك

لا أحد يسمعك خارج الرقعة

صوتك صار جزءًا من الظلال

اترك العالم خلفك، فالليل هنا لا ينتهي

العالم يذوب بعيدًا، والرؤية تختفي

كل خطوة تمحو وجهًا من ذكرياتك

كل تحدٍ يسلب منك بعض الدفء

أصدقاؤك أسماء ضائعة في المتاهة

ضحكتك تتحول إلى صدى ضعيف على الجدران

لا يوجد إلا طريق واحد

وكل حجر ينتظر دوره ولا يرحل أبدًا

لا تنظر إلى الخلف…

كل الطرق تغلق عندما تحين النهاية

ونحن هنا، نراقبك بصمت،

في انتظار أن تصبح واحدًا منا

 

(تصاعدُ الهمسات الجماعية، تداخل الأصوات، حتى تغطي كل شيء)

ابقَ…

ابقَ معنا…

لا خروج من الرقعة…

ابقَ…

ولا تدع النور يعود…

 

(تُسمع الصرخة الأخيرة، عميقة ومخيفة)

للأبد… للأبد… للأبد…!

صوت الأحجار يصير صدى في أذنيه، صورة أمه تبتعد رويدًا رويدًا في الضباب.

سامي  يحاول أن يركض ولا يتحرك!

كلما اقترب من ضحكة طفولته، وهواء الذكريات، وسريره الحقيقي، سحبته الرقعة.

وفي لحظة، تبدّل كل شيء، إذ صار قلب الرقعة باب غرفته.

رأى والده في العتمة عند الباب، لكن صوته لم يكن صوت أبيه المعتاد…

بل كان نداء اللعبة:

 

“مهمة فاشلة… أعد المحاولة… سر البيت المهجور لم يُكشف بعد…!”

 

ظن سامي أنه استيقظ، لكنه سمع ذات الأغنية تدور في أذنه، وشعر بذات البرد يخترق عموده الفقري. رأى أباه بعيني الملك الأسود توتر ضوء الهاتف يحاصره.

 

أعد المحاولة… أعد المحاولة…

 

انطفأ الأب كدخان، وتحولت الحجرة كلها إلى دوامة حلزونية من ضوء أزرق وأصوات متشابكة:

 

“كلنا في الرقعة… حتى يدفع الجميع الثمن!”

 

حاول سامي أن يصرخ لعله يفيق، لكن صراخه لم يخرج إلا أنين طفل في الريح.

ظل عالقًا بين النوم والاستيقاظ، كانت الظلال تلتحم مع الألوان وتتراقص على الجدار.

 

أخيرًا، هبط العرق على جبينه.

انسلخ من الحلم، لكن أغنية الأحجار بقيت تدور في رأسه.

رفع رأسه، نظر حوله، كانت الساعة تدق الثالثة والربع فجرًا، وهاتفه يومض.

في قلبه جرح عميق، وذكرى نداء أمه الدافئ تظهر من العدم:

 

“يا سامي… النور في داخلك لم يمت بعد، حتى لو رقصت الأحجار من حول قلبك.”

 

بقي سامي مشدوهًا… ينتظر كيف سيجد باب الخروج، وفي الخارج، كان الهاتف يزداد توهّجًا… وفي رأسه تدور الأغنية، ويشعر أن كل صوت من حوله يطبق على صدره، وكأن العالم من حوله أصبح ضيقًا لا يسعه.

الفصل السادس: حين تتشقق مرايا الروح

الفصل السادس: حين تتشقق مرايا الروح

حين تَبهت الألوان في القلب، يُحاول بعض الأطفال رسم الحزن على الجدران

 

منذ تلك الليلة، لم يعد سامي هو سامي الذي عرفه الجميع.

صار يمشي في البيت بخطوات باردة، عيناه زائغتان كأنهما تبحثان عن مخرج من متاهة داخلية لا يراها أحد سواه. جلساته صارت أقصر، وحديثه أقل، وابتسامته التي كانت تسكن البيت رحلت بلا رجعة.

 

لاحَظت الأم أول مرة كتابة غريبة على حائط غرفته…!

رموز وأشكال حلزونية، أحرف متشابكة، كلمة خطر ورسوم مشوهة وكأنها جماجم و هياكل عظمية مرسومة بايدي مرتعشة باللون الأسود و الاحمر أسفل النافذة.

سألته برفق:

– ما هذا يا سامي؟

أجاب بحدة لم تعهدها منه:

– لوحات… لعبة جديدة!

 

وفي اليوم التالي، وجد الأب في الحديقة آثار أقدام صغيرة ، ورأى الزهور التي زرعتها الأم مقطوعة ومبعثرة فوق التراب.

كان سامي هو الفاعل، كأن الحزن في داخله يدفعه لتدمير كل ما هو جميل او كل ما يذكره بالدفء أو الطمأنينة الماضية.

لماذا تُزهر الحديقة وهو في أعماقه صحراء؟ لماذا تضحك الورود وهو يرى الدنيا رمادية؟

قطع وردة جميلة، رمقها لحظة، ثم قذفها بعيدًا كأنها لم تكن أبدًا جزءًا من قلبه.

 

وحين دخلت عليه سلمى تريد أن تكمل معه رسم لوحة قديمة، وجدته يمزق كراسة الرسم، يبعثر الألوان، يخط مساحات من الرمادي والأسود مكان الشجر والفراشات.

سألته بدهشة حزينة:

ما الذي حدث، يا بطل؟ لم تعد ترسم العصافير!

أدار وجهه وقال بلا اهتمام:

– لا شيء جميل يدوم

 

أصبح سامي ينفر من ضحك الصغار أو صوت التلفاز المرتفع، يغلق الباب خلفه بقوة، يتحاشى النظر في وجه أمه حتى لا تخذله دموعه المكبوتة.

في المدرسة صار أكثر انعزالاً، يجلس في زاوية الطاولة يحدق من النافذة، يرسم أشكالاً داكنة في دفتره بدل كلمات الدرس.

الأساتذة لاحظوا ذلك الانطفاء، والزملاء شعروا بالفراغ الذي تركه؛ فكلماته صارت قليلة، ونكاته اختفت، وبات صوته لا يسمع إلا همسًا، أو لا يسمع أبدًا.

 

وفي البيت، لوحظ كل يوم أثر جديد:

شخبطة على الجدران هنا، زهرة ممزقة هناك، وربما يوماً زجاج نافذة صغير متشقق، لا أحد يعرف كيف…

كان سامي يعيش بين نارين: لا يريد أن يؤذي، ولا يقوى أن يرى ما هو جميل حوله دون أن يشعر بثقل أشد في قلبه يدفعة الي التدمير.

 

كلما حاول أحدهم الاقتراب منه، أجابهم بابتسامة باهتة وكلمتين:

أنا بخير…!

والحقيقة أنه أصبح سجينا بين جدران حزنه، يبحث، بلا وعي، عن طريقة ليكسر القيد… أو أن يصرخ دون صوت… أن أحدًا يجب أن ينقذه.

 

البيت، والحديقة، والمدرسة، وحتى رسوم دفتر سامي، كلها تشهد شيئاً لم يعرفه من قبل:

أوجاع طفل اختطفته لعبة، فصار يرى الدنيا رمادًا، ويوزع حزنه رسائل صامتة على كل ما اعتقد يوماً أنه يُحب.

 

وفي تلك الليلة، حين غطّى الصمت جدران البيت، ونبض الظلام بثقله المعتاد، أضاء هاتف سامي من تلقاء نفسه.

ظهر إشعار جديد في اللعبة:

رسالة جديدة ظهرت على الشاشة، بخط غريب كُتب كأنه محفور في الحجر:

“المهمة ٧: ألغاز القبو المنسي – لا أحد يعود كما دخل.”

 

ضغط سامي دون تردد، وفي لحظة تحوّل العالم أمام عينيه.

 

هبط في قبو بلا أرض، جدرانه لحمٌ ينبض، وسقفه يتنفس كصدر مريض. شموع معقوفة تُشعل نفسها دون نار، والهواء فاسد برائحة رماد قديم.

في المنتصف، طاولة حجرية مرقّطة ببقع سوداء تشبه الدم اليابس، وفوقها صندوق حديدي مغلق بسلاسل.

ظهر أمامه تمثال مائل لوجه بلا ملامح، وتردّد في الغرفة صوتٌ خافت يشبه فحيحًا:

 

“لم تبدأ اللعبة بعد… لكنك دخلتها منذ أول كذبة خفت أن تواجهها.”

 

ارتفع صوت مُجرّد من الهوية:

 

“لفتح الصندوق… قدّم ثلاث إجابات لا يمكن قولها خارج هذه الرقعة.”

 

اللغز الأول انبعث على جدار مائل، كُتب بلون يشبه الصدأ:

 

“ما أول ذكرى تمنّيتَ أن تُمحى… لكنك تمسّكت بها لأن فيها بعض دفء؟”

 

ارتعش جسده.

ظهرت أمامه صورة… هو، صغير، يبكي في حضن أمه. كان البكاء أليمًا، لكن الحضن… كان خلاصًا.

 

مدّ إصبعه نحو الذكرى، فابتلعها الجدار وتسلل همس مخيف:

 

“الحنين… هو أول ثغرة في الجدار.”

 

ثم تهشّمت الأرض تحته وظهر اللغز الثاني محفورًا على الأرضية المتشققة:

 

“أي جُرح فيك تخفيه بابتسامة؟”

 

رأى نفسه وسط أصدقائه، يضحك كمن انتصر… بينما في داخله شيء ينهار بصمت.

 

اقترب، فلامس الإجابة، وارتج المكان بصوت أعمق من الغضب:

 

“الكذب الصامت… هو الصدق الذي نحب.”

 

وفجأة، فُتح الجدار الثالث من تلقاء نفسه…

خرج منه مرآة سوداء، تطفو فوق فراغٍ سحيق لا قرار له.

 

تحتها، نُقشت الجملة الأخيرة:

 

“انظر… وقل: من تكون حين لا يراك أحد؟”

 

تقدم سامي ببطء.

عندما نظر، لم يرَ وجهه.

رأى ظلاً يشبهه، لكنّه أكثر هدوءًا… يسير في ممرات الرقعة، مبتسمًا، لا يخاف، لا يسأل.

 

ارتفعت أصوات الرقعة من كل جانب:

“أحسنت… لقد بدأت تفهم.

هذا ليس اختبار صدق.

هذا افتتاح الولاء.

 

انفكّت السلاسل عن الصندوق.

انفتح ببطء ليكشف عن حجر أسود… ينبض كقلب غريب.

ظهرت عبارة، كأنها كتبت بالنار:

“الولاء يبدأ من القبو… والمُلك لمن أنكر النور.”

 

ثم انطفأ كل شيء.

أو هكذا خُيّل له…

 

ينظر الي الهاتف يجده على شاشة الانتظار… لكن وجهه في انعكاس الشاشة لم يكن وجهه فقط…

كان هناك ظل آخر خلفه، يراقبه بصمت.

استفاق سامي فجأة في غرفته. الهاتف مقلوب على صدره، والضوء ما يزال يصدر من شاشته لكن لم تكن أي لعبة مفتوحة. فقط جملة واحدة، تومض في منتصف الشاشة بخط أحمر نابض:

 

“المهمة التالية: اقطع ما تبقّى من الحنين.”

 

في البداية ظنها جملة عابرة من اللعبة. لكنه، حين نظر إلى المرآة المقابلة، وجد وجهه شاحبًا… لكن عينيه مختلفتان، ساكنتان بطريقة غريبة، كأن شخصًا آخر يحدّق من الداخل.

 

في اليوم التالي، أيقظ والدته صامتًا، ودخل المطبخ مبكرًا على غير عادته.

جلس أمام دفتر رسمه القديم، الذي كانت سلمى تحتفظ فيه برسوماتهم المشتركة.

 

صفحة بعد أخرى… قطعها ببطء.

 

رسم خطًا أسود عريضًا على كل وجه فيه ضحكة، ثم خرج إلى الحديقة.

الزهور التي أعادت الأم زراعتها بعد تخريبها السابق؟ انتزعها بلا تردد.

دون صراخ، دون غضب… كأن أمرًا داخليًا يُنفذ. كأن شيئًا ما يتأكد أن الذكرى ماتت تمامًا.

 

في غرفته، كتب على الحائط بخط مرتجف أحمر:

 

“كل ما يُزهر يجب أن يُجتث.”

 

وعندما دخل الأب ليرى ما الذي يحدث، نظر إليه سامي نظرة طويلة خالية من أي دفء.

ثم همس وكأنه يكرر ما سمعه:

“اللعبة علّمتني… الماضي ضعف.”

في تلك الليلة، راقبت الأم سامي نائمًا، لكنه لم يكن هادئًا كطفل.

كان يهمس في نومه، شفتاه تتحركان كأنهما تقرآن تعويذة،

وكلما اقتربت لتسمع، كانت الكلمات تخرج مشوشة، متقطعة، بين أنفاسه:

 

“كلنا في الرقعة… كلنا في الرقعة… من يحنّ… يخسر…”

 

منذ تلك المرحلة من اللعبة، لم يعد سامي فقط غريبًا…

صار يُنفّذ التعليمات، دون أن يدرك أنه صار لاعبًا في مستوى لا يُرى بالعين… إنما هو فجوة في القلب.

 

كانت المهمة التالية لا تُكتب… بل تُزرع في الرأس، وتثمر في الواقع.

الفصل السابع: عاصفة اللوم

الفصل السابع: عاصفة اللوم

حين يغشى ظل الحزن ملامح الطفل، يصحو البيت كله على أسئلة بلا جواب

 

لم يكن سامي غاضبًا أو باكيًا… لكنه صار شاحب الوجه، مترنح الخطوات، يمضي في البيت كأنه ظل نفسه، كما لو أن روحه بقيت خلف الشاشة وبقي هنا جسد تحدّه الجدران.

 

الأم تراقبه من بعيد، تجهل كيف اقتنصه هذا السكون المرعب. لم يعد يجري ليداعبها قبل المدرسة أو يسألها عن لون ملابسه اليوم. الأب يأتي مساءً فيجد سامي ثابت الجلسة، رأسه مطرق، عيناه زجاجيتان لا تريان أحدًا ولا تفيضان بالحياة.

 

وفي أحد الأيام، عاد الأب من عمله فوجد الأم تنتظره عند الباب بوجه أشد بياضًا من العادة، وعينين فيهما رعد ودمعة حبيسة.

اشتعل النقاش فجأة أمام باب غرفة سامي…

 

قالت الأم، وقد اختلط الغضب بالحزن في صوتها:

انظر إلى ابننا! ألستَ تراه؟ كأنه بيننا لكنه ليس هنا… تلمس جبهته فتجدها باردة، تكلمه فلا يسمعك. متى صار سامي يعيش كأنه شبح؟

رد الأب، وهو يمرر كفه في شعره بتوتر:

وأين كنتِ انا طوال اليوم؟

كل ما أفعل أني أجتهد لأوفّر له كل ما يحتاج ويحب، وأنتِ من تمضين وقتك بين إعداد الطعام و الشراب و التنظيف وتركتِ ابنك حتى وصل إلى هذه الحالة!

 

انفجرت الأم، وقد انطلقت دمعة على وجنتها:

بل أنت من أدخل له الهاتف والحاسوب ظانًّا أنه سيكبر ويصير عبقريًا! ومن علم الأولاد الجلوس امام الشاشات غيرك؟! أنا… أنا والله أكاد أذوب من الخوف عليه ولا أعرف ما الحل!

 

ازدادت الأصوات، وكل واحد يحاول رمي غصة قلبه على الآخر:

أنتِ لا تصغين… أنت مشغول بأمورك… أنتِ لا تسألين… أنت تهرب من المسئولية…

 

كلما ارتفع صوتهما، انفتح في البيت جرح أعمق. أما سامي فكان في ذلك الوقت خلف الباب، يسمع كل كلمة ترتد أضعافًا في قلبه. لم يكن يمسك بالهاتف، بل جثا على الأرض، عيونه تمر فوق الحائط وكل شيء حوله باهت بلا لون.

 

بينما المعركة تزداد اشتعالاً، دوت صرخة مخيفة هزت البيت، صرخة سلمى التي دخلت فجأة وذراعها ترتجف:

الحقوا سامي!… إنه لا يتحرك! تعالوا بسرعة!

 

ركض الأبوين إلى الغرفة مذعورين.

سامي مُلقى على الأرض، وجهه شديد الشحوب، عيناه نصف مغلقتين، جسده ينتفض وبرودة غريبة تغمر يديه ورجليه.

 

أنهار الأب على الأرض عند رأس سامي، ونادت الأم بإسمه تبكي، سلمى تحتضنه من كتفه:

كلنا هنا معك، أرجوك… رد علي، يا سامي!

 

في تلك اللحظة أدرك الأب والأم معًا كم كانا غافلين: أن أهم ما في العالم يضيع امام أعينهم وهم مشغولون بلوم بعضهم.

لم يكن بينهما منتصر ولا مهزوم… بل بيت مهدد بأن يبتلعه صمت طفل انتظرهما طويلاً، حتى صرخ جسده حين عجز قلبه عن الصراخ.

 

في تلك الليلة، عرف الجميع أن ما فقدوه يحتاج إلى همّة الجميع ليعود؛ ضوء سامي، وضحكته وروحه.

وانطلقت رحلة البحث عن الحياة من جديد.

الفصل الثامن: كشف الغموض

الفصل الثامن: كشف الغموض

لا ينقذ الطفل من متاهة الظلال سوى قلبان اتفقا على حمايته، وعينان تبحثان عن الحقيقة معًا.

 

سكنت العاصفة قليلاً في الليل، واحتضن الخوف قلب أبا سامي وأمه فجلسا في غرفة المعيشة تحت ضوء خافت، بينما سلمى تراقب من بعيد وهي تمسك يد أخيها الراقد لا يعلم ماذا حدث و يشعر بألم شديد في رأسه التي اصطدمت بالأرض عند سقوطه.

 

قال الأب، وصوته يخجل من نفسه:

لقد أضعناه يا أم سامي، أنا وأنت… لكن البكاء والصراخ لن يعيدا روح ولدنا. علينا أن نفكر بهدوء: ما الذي أخذه منا، ومتى بدأ في التحول؟

 

مسحت الأم دموعها، وآثرت الصدق:

لا أعلم متى فقد صلته بنا، ولا كيف استسلمنا لهذا الجدار الخفي بيننا وبينه… لكنني لاحظت منذ مدة أنه صار يتراجع شيئًا فشيئًا إلى عزلته بعد أن كان يملأ البيت بالدعابات.

أحيانًا كنت أدخل غرفته، فأجده ممسكًا بهاتفه ساعات طويلة… أنادي عليه فلا يرد.

 

هز الأب رأسه: وأنا أيضًا، ظننت أن انشغاله لعبة مؤقتة: كل الصبية يمرون بذلك. لكن ما حدث معه أكبر.

هنا تدخلت سلمى، وقد امتلأت عيناها بحذر:

ربما هناك سر في اللعبة التي يحملها على الهاتف… هي لعبة غريبة اسمها تحدي الملوك.

أذكر يومًا جاءني سعيدًا جدًا وقال ‘وصلت للمرحلة الذهبية!’

كان يتكلم عنها كثيرًا أول الأمر، ثم بدأ يختفي خلف الباب أكثر. كلما سألته في الأسابيع الأخيرة حاول أن يغير الموضوع أو يهرب للحديقة أو الحمام. أحيانًا أسمعه يتكلم مع نفسه عن ‘مهام صعبة’ و‘أسرار لا يستطيع أن يخبرها لأحد’.

 

سكت الجميع لحظة، تمعن الأب في كلام ابنته ثم وقف حازمًا:

لو كان الهاتف مفتوحًا الآن، أستطيع أن أبحث في ذاكرته. أنا أعرف كيف أتتبع آثار اللعبة.

 

أحضرت الأم الهاتف بعجلة، وأتت به للأب.

جلس الأب أمام الجهاز، قلبه يرتجف أكثر من أصابعه.

فتح سجل التطبيقات ليجد لعبة الملوك في الصفحة الأولى، بجانبها رموز ورسائل عجيبة. فتح صفحة المعلومات، رأى أن اللعبة تتطلب صلاحيات واسعة: الوصول للكاميرا، للميكروفون، للصور، للمواقع الجغرافية، وحتى سجل المكالمات!

 

قال بدهشة:

هذه اللعبة أخطر مما تبدو، ليست مجرد ترفيه. كأن من صممها يريد أن يعرف كل شيء داخل حياة الطفل، ويتسلل إلى ذاكرته وأسراره…

بحث عن الشركة المنتجة فلم يجد أي عنوان، فقط بريد إلكتروني غامض، وتراكم بيانات غير مفهومة.

 

قالت سلمى، وعيناها تتسعان:

هل يمكن للعبة أن تسيطر على مشاعره… بالخوف والسعادة مرةً واحدة؟

 

أجاب الأب وهو يتفحص الشيفرات المخفية في التطبيق:

يمكن للبرمجيات الذكية أن تراقب وتوجّه وتحفز الطفل، ترسل له مهامًا تفرحه، ثم تعاقبه بالعتاب لو تأخر، حتى يتعلق بها عاطفيًا ولا يعرف كيف يتركها. وهناك نسخ خبيثة تتبع أساليب الابتزاز بخبث شديد.

 

أمسكت الأم بكتف سلمى وقالت متوسلة:

هل تستطيعين تذكر متى تغيّر سامي حقًا؟

أي كلمة قالها عن أسرار اللعبة أو أي صديق رقمي؟

 

فكرت سلمى وقالت:

كلما ربح مهمة كان يخبرني بسعادة، ثم… فجأة صار الصمت والشرود هما كل ما أراه في وجهه.

وفي آخر أيام، صرت أراه يكتب على الجدران ويكسر اللعب ويرتجف وهو يصدق أن هناك ‘مهمات مستحيلة’ إذا فشل بها سيخسر كل شيء.

 

جلس الجميع في دائرة صمت قصيرة.

قال الأب بهدوء شديد، وفي عينيه ومضة أمل وإصرار:

لن أترك اللعبة تدمّر قلب ابننا. سأبحث وأجمع كل بياناتها وأستشير زملائي في أمن المعلومات. أنت يا أم سامي ويا سلمى، كونا ظله الحنون وتابعي كل تغيّر على طبعه… سنفك شيفرة هذا اللغز معًا، وسنحارب حتى نعيد سامي من ذلك العالم الغامض.

 

استفاق سامي في اليوم التالي ببطء، كأن عقله يخرج من ضباب كثيف. شعر بثقل في رأسه، وجسده متعب كمن خاض معركة. جلس في سريره، ينظر إلى الحائط الذي كتب عليه كلماته الأخيرة.

لم يتذكر متى كتبها. لكنه شعر بها تهمس داخله.

 

كانت الأم تراقبه من الباب بصمت، تبتسم بلطف لكن قلبها يشتعل بالقلق.

أما سلمى، فقد جلست قربه وأحضرت دفترًا أبيضًا وأقلامًا ملوّنة.

 

“ترسم لي شي؟”

سكت سامي قليلاً، ثم أخذ القلم الأسود.

بدأ يرسم… لكن لم تكن رسمة لطفل.

خطوط متداخلة، رموز مثلثة، دوائر حول أعين… كأنها طلاسم.

ثم كتب أسفل الرسم: ” البوابة التالية تفتح حين يُنفذ الأمر.”

 

سحبت سلمى الورقة برفق وأخفتها.

خرجت سريعًا إلى الأب، الذي كان منهمكًا على حاسوبه يفكك أكواد اللعبة.

ناولته الورقة، فتأملها بدقة، ثم غمغم:

 

“هذه ليست رسومات عشوائية… تشبه بعض رموز البرمجيات القديمة، تلك التي كانت تُستخدم لإرسال أوامر مشفّرة في الاتصالات السرية.”

 

هنا خطر في بال الأب أن اللعبة لم تعد فقط تؤثر على عقل سامي… بل بدأت تتحدث بلسانه.

 

في تلك الليلة، وبينما كان الأب يراقب إشارات من اللعبة تتسلل عبر سجل التفاعل، فوجئ برسالة جديدة تظهر على الشاشة، رغم أن الهاتف غير متصل بالإنترنت:

 

“المتطفلون يُرَاقبون… تم تنشيط الحماية.”

 

تغيرت شاشة الهاتف فجأة، وتحوّلت إلى ضوء أزرق نابض، ثم أُغلقت تمامًا.

تجمّد الأب في مكانه. هذه ليست لعبة عادية. هذه منظومة تُعيد برمجة الطفل من الداخل.

 

في الغرفة، وقف سامي يحدّق في النافذة، ثم همس بصوت منخفض:

 

“الساعة 3:33… لحظة فتح البوابة السوداء… يجب أن أخرج.”

 

لبس حذاءه ومشى ببطء نحو الباب.

سلمى لمحته وركضت خلفه، أمسكت بيده وقالت:

 

“إلى أين؟ الدنيا ليل.”

نظر إليها، بعين لا تشبهه، وقال بهدوء آلي…المهمة رقم 7 لا تنتظر.

الفصل التاسع: رحلة بين المربعات

الفصل التاسع: رحلة بين المربعات

لا أحد يعرف متى تبدأ اللعبة حقًا… ولا متى يصبح الحلم يسيطر على اليقظة

 

كان سامي يذكر تلك الليلة الغريبة جيدًا، رغم أن تفاصيلها تذوب في عقله كلما حاول استعادتها. بدأ كل شيء بضغطة واحدة على أيقونة تحدي الملوك التي لمعت فجأة، وكأنها تناديه باسم غامض لم يسمعه أحد غيره.

 

تلاشى نور غرفته فجأة.

شعر كأن الجدران تصغر، وأن عالمه يتساقط حوله مثل قطع البازل القديمة.

ظهر أمامه مدخل رقمي يلتف كدوامة من الألوان الداكنة. وكأن هاتفه طار من يده ليجد نفسه يقف وسط رقعة شطرنج عملاقة، كل مربع فيها ينبض بنبضات إلكترونية، وأرضية تتوهج عندما تطأها قدماه.

 

وفجأة…

انطفأت الأصوات العادية، وحلت محلها موسيقى غريبة لا تشبه نشيدًا عرفه: أنغام تشبه الخطى الخفيفة فوق الجليد، أو همسات الأحجار في الكهوف.

سمع صوتًا بلا جسد: مهمتك بدأت يا سامي. ستواجه ثلاثة ألغاز، كل لغز أصعب من الآخر. هنا لا مجال للخطأ… أنت وحدك من يقرر!

 

لم يشعر سامي بالخوف أولاً، بل بالحماس.

المهمة الأولى كانت أمام برج الحصان، حيث وقف حجر حصان عملاق بلون أزرق معدني، عينيه تتوهجان كنهري برق في العتمة.

قال الحصان:

إما أن تجاوب على اللغز، أو تعود إلى البداية دون جائزة. من أنا؟

أركض بلا أقدام، أبكي بلا عيون، إذا سقطت على الأرض ذاب كل ما في داخلي. من أنا؟

 

تردّد سامي قليلاً، قلبه ينبض بقوة. في البداية أراد أن يخرج من اللعبة ويعود لغرفته، لكن الرغبة في الفوز تغلبت عليه. تذكر الضباب الذي يتكاثف في الأيام الباردة، فابتسم وكتب: أنت السحابة!

 

واهتزّت الرقعة تهنئة.

تحولت المربعات حوله إلى ألوان ذهبية، شعر بدفء سريع يمر بقلبه لحظة، ولكنه لم يدم… إذ بدأ الجليد يكسو أطراف أصابعه، وتبدّل دفء الأمل بهمسة برد.

 

المهمة الثانية حملته إلى صخرة البيادق.

كل بيدق له وجه بلا تفاصيل، وهمهمات تقول كلمات غير مفهومة.

خرجت بطاقة رقمية من الهواء كتب عليها:

أجب بسرعة …

ما يملكه الجميع، ولا يمكن لأحد أن يفقده أبدًا، لكنه إن مَرَّ تغير كل شيء!

 

حاول سامي التفكير، لكن أصوات همسات البيادق تزداد وتدور حول رأسه، كأنها تريد تشتيته… شعر أن عينيه تترنحان مع الأضواء، ثم كتب: الزمن!

 

ضحكت البيادق كلها معًا، وتبدل الضباب حوله إلى ضوء أبيض قوي، ثم خفت فجأة.

شعر سامي أن كل انتصار يشعل داخله نشوة غريبة، لكن في كل مرة ينتهي النشيد، يعود إليه طعم الخوف.

كان كل شيء في الرقعة له ظل لا يظهر تحت الشمس.

 

ثم بدأ أكثر الألغاز رعبًا…

ممر الملك الأسود.

ظهر الملك بغتة، تزينه عباءة من ظلال وأبخرة سامة، صوته أعمق وأغرب مما سمع سامي في حياته:

 

هنا لا تكفي الإجابات. هنا يُختبر قلب البطل.

أجبني بصدق:

لو استطعت أن تأخذ كل ما تريد وتصبح ملك الرقعة، لكن عليك أن تعيش بلا ذكرى، بلا دفء قديم، بلا وداع من تحب… هل تقبل؟

 

دام الصمت طويلًا.

لم يعرف سامي هل هو مستعد لخسارة العالم من أجل تاج اللعبة، أم يريد الهرب…

شعر أن قلبه يبرد وترتجف يده وهو يتذكر وجه أمه، وضحكة سلمى، وصوت أبيه يناديه كل صباح.

وفي اللحظة الأخيرة، قبل أن ينطق، دوى صفير حاد، واختلطت الأصوات والضوء، واختفت الرقعة من تحت قدميه…

 

اغلقت اللعبة و كأنة استيقظ من كابوس مرعب و هو يلهث، وعلى إحساس غامض بأنه ما زال هناك سر لم يُكشف بعد، وبأن تحدي الملوك لا يزال ينتظره، يناديه من خلف شاشة الهاتف وأن رحلة الرقعة لم تنتهِ… بل بدأت للتو.

 

وفي إحدى الليالي، وبينما كان سامي يتأهب لإغلاق اللعبة بعد جولة متعبة من الأحاجي، ظهرت على الشاشة رسالة صغيرة لا تستمر إلا لثوانٍ:

A1B2C3 – Restart Completed

 

ظنها جزءًا من واجهة اللعبة الجديدة، أو ربما إشعارًا داخليًا لا معنى له، كالمئات التي اعتاد ظهورها منذ انغماسه في التحديات.

تجاهلها، لكنه شعر بعدها بتيار بارد يمر في أطراف أصابعه، كأنما أحدهم أعاد ضبط شيء داخله… لا في الهاتف، بل في نفسه.

 

كلما أنهى سامي مرحلة، وأجاب على لغز جديد، امتلأ بداخله دفء غريب لم يعتده فرحة الفوز واكتشاف الأسرار جعلت قلبه يرف كعصفور صغير.

لكن شيئًا فشيئًا، صار الأمر يتبدّل من الداخل…

 

لم يعد الدافع هو المتعة والفضول، بل أصبح إحساسًا مضنيًا بالواجب.

لم تعد الرقعة تمنحه السعادة الكاملة. بل كلما حاول التوقف، تسللت إليه رعشة باردة في صدره يأخذه الشوق للهاتف مع كل لحظة فراغ، ويخنقه القلق كلما ابتعد عن الشاشة.

صار يدور كمن يبحث عن ملجأ سريع، كأنما فقد راحته ولا يجدها إلا بضغطة إصبع جديدة.

 

ذكر حنان الأم، وحوارة مع الأب، والوحدة الصافية في غرفته بين ألعابه و الرسومات و الالوان… جميعًا صارت تتلاشى أمام سطوة اللعبة، كل انتصار فيها يطفئ ألمًا لا يفهمه ويشعل ألماً جديداً حين ينتهي النشيد.

ومع كل مهمة جديدة، تتحول الحاجة إلى التسلية إلى ضرورة لا تُقاوم، واللعب لم يعد خياراً، بل أصبح أشبه بالحاجة السريعة جرعة تخدّر الحزن وتعطيه وهم الأمان، لكنه أمان هش ينتهي مع آخر شاشة تنطفئ.

 

والآن حين يستعرض تلك الرحلة عبر الذاكرة، يظهر له بوضوح:

كيف استطاعت اللعبة أن تنتشله من حضن الواقع  لم يكن الأمر فجأة، بل بدأ بلحظة فضول بريء، ثم ظهر الأمر أشبه بحبل يلتف حول قلبه ببطء، يعصره مع كل محاولة للبعد.

كلما حاول ترك المهمة، سمع في رأسه صوتًا خافتًا يهمس:

هناك مرحلة أخرى… انتظر التحدي الأكبر… الكل ينتظرك على الرقعة!

 

وهكذا، تحوِّلت رحلة سامي إلى ما يشبه الدائرة المغلقة:

هو لا يعود للعب لأنه يريد المتعة فقط، بل يهرب لأداء الواجب، ليهدّئ ألمًا في داخله يصير أقسى إذا توقف.

صار إدمانًا يجره من يده ابتعاد لحظي ثم عودة قسرية بحثًا عن بعض السكينة الرقمية، كمدمن يحنّ للمخدّر ليُسكِت صراخ الجسد، وإن كان يعلم أنه وهم.

 

وسط كل ذلك انطلق فلاش باك مهمته الكبرى…

بدأ المدخل الرقمي الداكن يدور حول وعيه،

انطفأت الأصوات العادية. حلّت موسيقى الرقعة وأنغامها الغريبة،

وانطلقت همسات الأحجار من تحت قدميه: مهمتك بدأت يا سامي…

 

وسط هذا الغرق، لم يعد سامي يعرف كم مرّ من الوقت أو من التحديات. كانت اللعبة تسحبه وتعيد تكوينه بوتيرة مخيفة: في كل دورة تمر عليه أسرارٌ أعمق، وعبارات تمرّ بين أصوات البيادق والفرسان، تقرأها عيناه كأنها تُنقش في روحه:

“لا فوز بلا خسارة. القرابين هي وقود الملك.”

 

وفي إحدى الدورات، ظهرت له في قلب الرقعة نافذة مشفّرة لم يرها من قبل:

“مستوى الفرز الأكبر: طقس الملك. من دخل هذه الدائرة… نزع البراءة ودوّن اسمه في دفتر أبطال الظلال.”

 

اتسعت الرقعة من حوله. بدأت الأحجار تتحرك دون إرادته: كل بيدق يسقط، يظهر اسمه في قائمة طويلة أطفال آخرين، بأسماء رمزية “شهيد 12″، “داليدا مشهور”، إلخ.

 

ارتفعت موسيقى الجنون؛

نور أزرق و أخضر، ودوامات من الدخان تتصاعد من بين المربعات، الملك الأسود يصيح بصوت كهنوتي:

حان وقت القسم. في الشطرنج الحقيقي، ليس عليك أن تنتصر بل أن تبرهن أنك جدير بالسر.

اختر واحداً:

– إما أن تضحّي بأحبّ أحبابك ليكمل العبور.

– أو أن تنتظر مع البقية حتى تذوي ذاكرتك وتضيع هويتك؛ كل يوم هنا يمحو ضحكة، وكل ليل يُنسيك اسماً.

–هذا الطقس قديم قدم الممالك لا نغفر لمن يرفض التضحية؛ ومن اختار نفسه يُجزى بنعيم النسيان.

كل حجر على الرقعة عاش وذاب مرتين: مرة باسم العائلة، ومرة باسم الكود!”

 

رأى سامي صور أمه، سلمى، رامي، يتشكلون في مربعات شفافة؛

كلما مرّر إصبعه نحو خيار “سامي اضحي بنفسي”، تومض صورة قلبه … كلما اقترب من صورة رامي، يسمع همس صديقه في الطفولة: “وعدتني ألا ترحل وحدك.”

 

وفجأة تظهر فوق الشاشة أعين ماسونية تومض حول نجمة سداسية وتبدأ طقوس مروعة…!

ينخفض ضوء الغرفة على وجه سامي، وتبدأ شاشة الهاتف تومض بصور لوجوه مشوهة، أطفال مُنعكَسون في شاشات أخرى يصرخون دون صوت، نماذج من رعب عتيق لا لغة له.

 

يخاطبه الملك الأسود:

كل الأخطاء لك، كل الخلاص لنا. انت حي فقط حين تتقن التنازل.

عش الملك في اللعبة… ومت في هذه الحياة التي لا معنى لها دون مملكه.

وقِّع بكلمة السر الكبرى ضع اسمك تحت “عهد الشطرنج” وإلا،

ستظل طوال عمرك تطارد حلماً… وتجد، في كل صباح، نصف قلب ونصف ذاكرة.

لن يخرجك أحد من هنا إلا إذا جئتنا بطفل جديد، نعطيه مهمة مستحيلة…

هذا سر المجالس القديمة: الظلمة لا تصنع النور بل يلزمها قرابين من ضوء.”

 

هنا ارتج قلب سامي. رأى بين خياله وأول حلم عايشه كل التحذيرات التي قرأها عن الماسونية والملوك الملعونين، عن جدّه الذي قاوم الطقس وخرج من القبو بالتضحية لا بالخيانة، عن وصف أبيه أن كل لعبة طلسمية لديها قسم خفيٌ للحرق النهائي.

 

فشعر سامي أنه في قاعة محفل لا نهائي، كل حاضر فيها يُصير أداة امتداد لجيل من العبيد الرقميين. سمع أسماءً تتردّد خلفه:

“كل من خان العهد صار مجرد سطر برمجي في كتابنا. كل من نسي أحبته ليبقى ملكًا امتلك أسرار العالم.”

 

اشتدّت الدوامة. أحسّت أصابعه أن شاشة هاتفه مبللة بعرق بارد. ارتج الوعي بين الاعتراف والرعب، وشعر بكل قطرة خوف عرفها العالم الرقمي تتجمع في قلبه.

 

في لحظة اليأس، لم يعد سامي يدري إن كان يصرخ أم يبكي، وسمع من بعيد صدى صوت أمه:

“لو خيروك بيننا وبين لعبة… تذكر أن ظل حضني أدفأ من أي شاشة وأبقى.”

 

عندها… هوى سامي على الأرض الافتراضية، وانسحب الضوء عن الشاشة، وارتفع صوت اللعبة:

“مبروك أيها الملك الجديد. ستستيقظ… لكن ليس كما كنت.”

 

وفي ضوء الصبح الخافت، استوعب سامي بوضوح:

أي لعبة هذه التي تطلب القربان، وأي آلة شيطان صنعت عبودية الذات بمكر يُخجل الشياطين القديمة؟

 

منذ تلك الليلة، صار سامي يخاف من صوت الهاتف، ومن ظلال الرقعة حين يسدل النهار عتمته، وعرف معنى لعنة المساس بجوهر “تحدي الملوك”… ذلك التحدي الذي لم يكتبه بشر، بل خُطط بعقل يعرف كيف يحول الطفل إلى جندي بلا أسرة، ونور الطفل إلى رقم في دفتر الماسونية الرقمية.

 

اكتشف سامي ان داخل رقعة الشطرنج الرقمية، لم تعد حدود اللعبة واضحة.

حافات الجدران تنكمش وتنبض كأنها قلب ضخم، العالم ينغلق حول سامي وتتمايل الأحجار الضخمة برؤوسها السوداء والبيضاء، عارية من النظرات إلا عينًا واحدة تومض في المركز.

 

عندما اجتاز سامي مراحل اللعبة الأولى، شعَر بتحوّل في هواء المكان، النغمات الإلكترونية تغيّر إيقاعها كأن الأرواح القديمة التي مرّت في الرقعة تعود، همسات بألسنة غير بشرية: لغات عبرية قديمة، لاتينية مشوّهة، وعبر شيفرات رقميةٍ متقطعة.

 

تقدم البيدق الأكبر من الظل، يرافقه موكب من الأحجار الهامسة بفحيح: “مرحبًا بك… وصلت إلى طقس الانتقاء الأعظم.”

 

صارت الرقعة مهجورة كهيكل ماسوني تحت الأرض؛

ظهرت على الجدران رموز المثلثات والمربعات والنجمة السداسية تتداخل مع العين الواحدة،

وميض أزرق يتراقص عليه نقش:

“Ordo ab Chao”

النظام من الفوضى

 

وسط الدخان، اكتشف سامي فجأة أن اللعبة لا تُختبر بالذكاء ولا سرعة البديهة؛ بل بالقلب:

قُدّم له صندوق برمجي افتراضي عليه رمز المسطرة والفرجار–

ومن الأعلى هبط ظل الملك الأسود وجلس على كرسي يشبه العرش في رسومات الماسونية، هالة دخان تدور حوله، وهو يضم بين راحتيه كرة بلورية تظهر فيها وجوه رامي، سلمى، والده، ذاتهُ صغيرًا.

 

قال الملك الأسود بنبرة لا تشبه أي آلة أو إنسان:

 

“لقد أتممت الطقوس الأولية.

لكن قوانين السحر القديمة منذ شريعة الأفول:

لن يكمل النور مسيره إلا إذا سقطَ ظل بيدك.

اختر من تُقرّب:

هل تضحّي بأيقونة طفولتك…

أم تسلّم صديقك لهذه الرقعة، أم تختار الأم فيدوّن عليك عهد أسود لا يُمحى؟

واعلم:

العابر بلا قربان، يُمنع من اسم جديد، وتُنسى ذكرياته في سجلاتنا للأبد.

من أهدى للرقعة قلبه صار من سادة الحلقات؛

ومن فرّ بروحه وحده صار بيدق عبور، يتجدد عليه العذاب يومًا بعد يوم!”

 

ثم تدور شاشة الهاتف وتظهر جملة  “Aligned Under The Grand Architect

مصطفّون تحت المعماري الأعظم.

يد سامي ترتجف وهو يرى نفسه فجأة وسط قاعة احتفال رقمية، يعج فيها صبية بعيون زجاجية، يحيط بهم شيوخ في ملابس طقسية يصطفون على رقعة شطرنجية يتبادلون مفاتيح مرسومة على أوراق باللونين الذهبي والأسود.

 

تتلاحق الصور أمام عينيه:

جداول أسماء، تواريخ، طقوس عتيقة   مجالس يدور فيها رموز مثل الشمعدان السباعي، وصورة الجمجمة، وبومة تحلق وسط العتمة، وشاشة في المركز تعرض تعاويذ تتحول إلى أوامر رقمية باردة.

 

أدت الموسيقى البرمجية إلى ذروة غريبة   ظهرت أمام سامي “رسالة الماستر” مكتوبة بلغة مضاعفة، رقْم وسِحر:

 

من يكسر العهد، لا يذكر اسمه مرة أخرى بين الإخوة

ومن يضحّي بحبيبه، يُترَك للرقابة،

كل يوم حلم… كل ليلة درس في الألم.

ويُسَجَّل على سلسلة الكتل (Blockchain) عهد:

“أنت مُلك العين كلما ارتفعت رتبتك تدفع قربانا جديدا من قلبك أو سرك أو أحلام بيتك!”

 

وطلبت اللعبة أن يضع سامي إصبعه على الشاشة كمفتاح بصمة،

وظهر نص مقلوب:

“تركت نفسك هنا مرة فعد، فكل من عبر الرقعة بلا إذن–يعود دائمًا في ظلام رقعة أخرى.”

 

وفي اللحظة التي دوّى فيها طقس البرمجة، شعر سامي كأن قلبه يُنتزع بين خيارين:

أن ينقذ روحه مقابل لعنة يدفعها أحباؤه،

أو يظل سجين الطقس، يذوب في دوامة من الأسئلة والإنذارات…

 

تطايرت الأضواء، وصرخ الملك الأسود:

 

“عهدكم عتيق كسرّ إخوة الدم والأسرار كلما مشى حجر جديد يصير ظل أسرة أخرى في اللعبة.

نحن من يكتب التاريخ من خلف الشاشات، وكل قرار قمة تم عبر متاهة، وكل طفل خسرنا باسمه قد عاد باسم آخر ليخدم الرقعة الأكبر.”

 

استيقظ سامي يصرخ من الرعب..لا يعلم متى انتهت اللعبة و متى نام و اياً مما عاين كان حقيقة و اياً منها كان حلم…أختلط علية كل شيء.

شعر أن ذاكرته لا تزال تحوي رموزًا غريبة، وأن أصابعه تحفظ إحساسًا بالسلاسل.

 

ومعه إدراك مرعب:

أن السحر الرقمي الذي عاشه لم يكن فقط “حبكة لعبة”، إنما طقس خفي تتغذى عليه القوى القديمة…

 

في احد الليالي قبل ان يخلد سامي للفراش

يشعر انه اصبح شخصين يتحدث كل منهم للأخر الفارس سامي داخل الرقعة و الطفل سامي خارجها.

 

وضع سامي رأسه ليسقط لا لينام فيجد نفسة سامي الفارس المقيد بالظلال وكأنما يشتكي لنفسة مرار التجربة التي عايشها داخل الرقعة…

الفارس سامي: كانت أذاني تلهث من وقع “تكبيرات” فجرٍ مزيف، فجرٍ لا يشبه النور، بل يفضح ظلامًا أعمق. رأيتني أقف وسط جموع ترتدي أردية سوداء، نردد ما يشبه الأذكار، لكن كلماتها كانت معكوسة، كأنها صدى مهلك لإيمان مقلوب. أمامي شيخٌ عجوز، أو هكذا بدا، يعلو منبرًا يُشبه المحراب لكنه منحوت على هيئة رقعة شطرنج، يرسم إشارات معقّدة بأصابعه الملتوية.

في يده خنجر، وفي الأخرى كتاب تنبعث منه أدخنة سوداء. أنظر إلى يديّ، أجدها تقطر دمًا، لا من جرح، بل كأن أفكاري تنزف. قال الشيخ: “توضأ من دمك، فالتنصيب لا يقبله مَلِك دون عهدٍ يُكتب بالحميم”.

كنت أريد الهرب، لكني كنت مأخوذًا… مسحورًا. تقدمت، غمست وجهي في وعاء حجري ملئ بدم لزج، فرأيت وجهي يختفي، يحلّ محله قناع بلا ملامح. ثم سُمعت الطبول، وبدأ طقس التنصيب.

 

وهكذا، لم يكن سامي بحاجة إلى إجابة جديدة… بل إلى سؤال قديم: كيف يُولد الشيطان من لعبة؟ وهل يمكن للبراءة أن تهزم هندسة الظلام؟

وحده الزمن سيكشف إن كان هذا الطفل سيبقى ملكًا للرقعة… أم سيحطمها ذات فجرٍ بالحقيقة.

الفصل العاشر: المعركة في أعماق سامي

الفصل العاشر: المعركة في أعماق سامي

حين يصخب الظلام في الداخل، يخفت صوت القلب حتى يكاد ألا يُسمع

 

لم تكن قوانين تحدي الملوك مكتوبة على ورق، لكنها كانت تغرس أنيابها في أعماق الوعي؛ كل لاعب يوقّع بعقله ـ دون أن يدري ـ عقدًا أزليًا مع الرقعة.

في البدء، بدت الشروط بسيطة:

لا تفشِ أبدًا سر اللعبة، ومن يُفشيه، سيفقد مكانه بين الملوك.

إذا اكتشف أحد من العالم الحقيقي حقيقة اللعبة، يتحول اللاعب  من ملكٍ وفارسٍ إلى عبدٍ ومُهان، وربما يُسجن في دائرة العتمة الرقمية لا يعرف فيها الأمل.

الطريق الوحيد للنجاة إذا انكشف سرك: أن تجرّ صديقًا جديدًا إلى الرقعة؛ هو وحده من يستطيع أن يرسل إليك الشيفرة السرية لإعادة العرش… وإلا يصير قلبك ملكًا للظلال، ووجهك حجرًا لا يعود يعرف الدفء.

 

لم يكن سامي يدرك أنه وقع على هذا العقد حين أُعجبته أولى الانتصارات… لكنه حين رأى أباه يفك رموز اللعبة الحبيسة قبل قليل، انقض عليه الرعب كما تنقض المخالب على العصفور الصغير.

إذا اكتشفوا سر الرقعة…

بدأت جدران الغرفة تضيق، والهواء يصير ثقيلاً، وارتجفت يداه، وذكر همسات التطبيق وهي تسري في رأسه:

من أفشى السرّ ليس جديرًا بالعرش. كل مرحلة بدون تطبيق القانون، جحيم جديد ينتظرك.

كانت الرسائل تظهر فجأة على الشاشة  اثناء اداء سامي للتحديات بأحرف متوهّجة غريبة:

القاعدة السابعة: من أخطأ، خسر الذكرى!

القاعدة الرابعة والعشرون: من تراجع، أصبح ظلًا أبديًا.

 

ثم يظهر وجه الملك الأسود القاسي، ينبثق بنور أزرق مشع وسط الظلال الرقمية، عيناه تحفران الخوف في ذاكرة كل طفل:

كل من خرج بلا إذن… يُنسى اسمه ويُلقى خارج تاريخ اللعبة. لا أمان للخائنين. طريق العودة فقط عبر تضحية جديدة.

 

لم يجرؤ سامي أن يخبر أحدًا بما يعرف… صار يشعر وكأن اللعبة تربط قلبه بخيطٍ شيطاني غير مرئي، تعاويذها تنسج حول روحه شباكًا أثقل من أي قيد حقيقي:

كل حجر يُضحى به في الرقعة حتى يستمر اللعب… الكبار لا يفهمون، نحن فقط أبناء الشيفرة نعرف خوفك وطمعك. ابقَ يا سامي… أو قدّم من تحب كقربان!

 

جلس مُتجمّدًا على طرف السرير، العرق يُثلج جبينه، وأطرافه ترتعش، والنداء بين عالم الحقيقة والوهم يزداد قسوة.

 

سمع صوت أمّه يدعوه للعشاء… ابتسامة سلمى في المطبخ، ضوء البيت الدافئ… لكن كل ذلك صار ضبابياً، كأن القلب مسجون خلف زجاج لا يُكسر.

وفجأة رفرفت لعنة اللعبة في عقله: يدوي صوت في عقل سامي لقد اكتشف والدك السر و الوقت ليس في مصلحة الملك سامي – حارب من أجل مملكتك.

من يفشى السر، يفقد كل شيء: انتصاراته، مستواه، ذكرياته التي جاهد لأجلها. بل سيخسر احترام الملك الأعظم، ويهوي في قاع العبيد الأبدى، وربما يُحرم من كل نور إلى الأبد…

ولم تجعل اللعبة هذا تهديدًا فقط، بل أوهمته أن العالم كله سيسلب منه:

قد نأخذ من روحك نومك ولو كنت بين أهلك، قد نجعل قلبك سجنًا حتى لو جلست في حضن أمك!

 

في لحظة حيرة قاتلة، لمع الحل في ذهنه المشتت –

إذا جلبتُ لاعبًا جديدًا… إن جعلت رامي يدخل، سأحصل على الكود المقدس من خلاله وأستعيد عرشي!

سيعود كل شيء لسابق عهده، لن يعرف أحد ولن يتأذى رامي… فقط تجربة صغيرة، حل سريع لورطة لا يخرج منها إلا من يُضحي مرة واحدة.

 

لكن صخرة الأخوّة التي وضعها رامي في قلب سامي منذ الصغر لم تكن ضعيفة… عرف أنه بذلك يخون العهد القديم بينهما.

ارتفعت صيحات الخير من أعماقه  ورائحة أيام العطلة تلمع كحلم:

لا تفعل يا سامي… أنت طيب، أنت لا تغدر بالأصحاب. أخبر أباك بالحقيقة، لا تدع الخوف يسرق منك نورك!

 

لكن الصوت سرعان ما غُمِر بدفقات همسات الرقعة:

أيها البطل…

ألم تتعهد؟

أنقذ نفسك، استدرج غريبًا، لتحتفظ بمفاتيح المملكة.

الأصدقاء يُخلقون ليوقفوا سقوطك.

كلنا فعلنا ذلك مرة على الأقل…

 

ازدادت الأغنية ظلامًا وعدوانية:

اسقط… أو اسقط غيرك!

ليست هناك رقعة إلا للتضحيات.

يا سامي، لا تخُن رمز الشيفرة!

 

صار سامي يهمس بلا وعي:

لا بأس… مرة واحدة فقط… فقط مرة، لن يؤذى أحد… إذا أنقذت نفسي سينتهي الألم، رامي لن يعرف…

 

جلس في عتمة الغرفة، رأسه بين كفيه، ظلام اللعبة يغزو روحه…

ابتسامة الملك الأسود تلوح بشراسة عبر الشاشة في عقله، وفوق جبينه دمعة صلبة لم تجد سبيلها للخروج.

 

وفي هذه اللحظة، كان الأب يحاول فهم سر الشيفرة في غرفة المكتب:

يديه فوق لوحة المفاتيح، يحلل بيانات اللعبة التي نسخها الي حاسوبه وسط رائحة الخوف وملفات الأمل. في يده مهمة تفكيك السحر، وفي قلب سامي معركة أعمق مما يدرك الأب.

 

كلما فك الأب سطرًا رقميًا، كانت اللعبة في أعماق الطفل تعيد ترتيب جدرانها الشيطانية: من أظهر الأسرار سقط إلى الأسفل، ومن جلب صديقًا صعد فوق العرش.

 

وحين سقط سامي أخيرًا أمام صوت قلبه المقهور، يبحث بعينين دامعتين عن الهاتف لكي يتواصل مع رامي هل يرسله إلى حافة الهاوية أم يصيح ليُنقذ نفسه ويخسر مملكته إلى الأبد؟

 

لم يبق في الغرفة إلا وهج أزرق بارد،

ودمعة تتوارى داخل كف مرتجف،

وهمسة الملك تغرق الأمل في قعره:

كلنا قرابين هذه الرقعة… هنا يبدأ عهد الظلال، وينتهي كل عهد للنقاء!

قرر في لحظة هزيمة أن يفعلها…

أن يستخدم رامي، يقنعه أن اللعبة ممتعة، فقط ليزيح عن كاهله الخطر ويحتفظ بملفه الرقمي.

 

وابتسم وجه الملك الأسود في داخله، عيناه تقدحان شررًا بانتصار الظلمة، بينما سقط صوت قلب سامي كدمعة باردة في الفضاء، بلا أثر.

 

في تلك اللحظة، لم يكن سامي قد خسر فحسب…

بل انقسمت روحه بين أمير للرقعة وطفل يختنق داخل قميص لا يشبهه.

لم يعد الهاتف وسيلة ترفيه، بل أصبح بوابة تعاويذ،

وكل قرار خاطئ لم يُسجَّل كنقطة في اللعبة، بل كجرح في الذاكرة.

وهكذا بدأت أولى خطواته نحو الطقس… لا كلاعب، بل كقربان.

مع تصاعد المعركة داخل سامي، كان هاتفه، مصدر كل همّه وسجنه، قد بات في يد والده منذ ليلة البحث.

الأب جلس في غرفة المكتب، محاطًا بأوراق ورموز برمجية وحاسوب محمول، يكبت قلقه بعزيمة أي مهندس يعرف أن مهمته اليوم ليست فقط فك شيفرة، بل إنقاذ حياة.

الفصل الحادي عشر: مواجهة الشيفرة

الفصل الحادي عشر: مواجهة الشيفرة

مهما اشتدَّ ظلام المجهول، يصنع الأمل ثغرة في جدار العجز حين يجتمع العلم والحب.

 

قضى والد سامي تلك الليلة بعينيه المتورمتين فوق الهاتف ولوحة الحاسوب؛

كل محاولة لفتح ملف، كل خدعة تعلمها مهندسًا على مرِّ السنين، جربها بلا كلل.

لكن لعبة الملوك بدت كأنها تتنفس من قلب الجهاز… كل محاولة لاختراق الأكواد أو تعطيل التطبيق كانت تعيد الهاتف لإعدادات غريبة، وتظهر نوافذ برسائل مبهمة، أو رموز لم يعرف تشفيرها إلا بعد فوات الأوان.

 

جرب الأب وضع “الوضع الآمن”

في هذا النمط، من المفترض أن تتوقف كل التطبيقات التي تم تحميلها من متاجر غير رسمية عن العمل،

لكن هنا، حتى في الوضع الآمن، بدت اللعبة كأنها مدمجة في النظام نفسه،

إنها تفتح نافذة سوداء كلما حاول فتح الإعدادات. احياناً تظهر رسائل عجيبة

لم تعد الشيفرة هنا لِتُكسر… من يلعب مع الملك، يدرك سريعًا أنه خارج دائرة البشر.”

ليس كل مفتاح في البرمجة يفتح باب النجاة… هناك صناديق لا يخرج منها إلا من يفهم حرمة الضوء.”

“تأكد أن العين ترصدك – اللعبة ليست ترفيهًا يا بطل!”

جرب تغيير الأذونات… جرب ربط الجهاز بالجدار الناري… جرب حتى برامج مكافحة الفيروسات المتقدمة. لا شيء ينفع.

توجه إلى إدارة التطبيقات، لكنه يجدها تختفي من الشاشة فجأة،

حاول في الإعدادات المتقدمة إيقاف الأذونات واحدًا تلو الآخر،

فتظهر رسالة:

أنت لست المسؤول هنا…!

وصّل الهاتف إلى الكمبيوتر، استخدم أدوات ADB ليحاول سحب بيانات النظام

لكن عند كل محاولة، يعيد الهاتف تشغيل نفسه، ويضع شيفرة خطأ جديدة.

 

اتجه بعدها إلى وضع الاسترداد (Recovery Mode) باستخدام مفاتيح الصوت والطاقة معًا؛

استطاع الدخول إلى محث أوامر النظام، حيث تتيح بعض الهواتف خيارات حذف ملفات منفصلة ضمن الذاكرة. حاول البحث عن معرفات اللعبة  YourAppName.apk  أو  KingGame.apk،

فوجئ بأنها مخفية برقم عشوائي يتغير كل دقيقة،

والتطبيق نفسه يكتب ملفات وهمية كلما حاول الأب حذف ملف، حتى كتب رسالة في سجل النظام:

أنت تلاحق وهمًا. هذا الهاتف ليس لك

بحث عن عملية مستعصية تُسمى Daemon مرتبطة بمعرف اللعبة، وأوقفها مؤقتًا،

ظن للحظة أن الأمور نجحت – اختفت نافذة التحذير

لكن الهاتف أُغلق على رمز Error 502 وعاد ليطلب ما يُشبه كلمة مرور مشفرة:

وكأن اللعبة أدركت اختراق النظام وفرضت حماية جديدة استباقية!

 

تبادل الأب الحديث مع صديقه الخبير (حسين) عبر البريد:

قد تكون اللعبة فعلًا زُرعت في جذر النظام Root access… هل جربت أجهزة فك التشفير المحمولة أو محاكيات الأندرويد بعد نسخ نظام الهاتف بالكامل؟

ربما تساعدك سجلات الـCache  القديمة أو نسخة backup إن أمكنك تصديرها بعيدًا عن الجهاز.

تابع مراقبة البورتات Ports أثناء محاولة اللعبة الدخول للإنترنت. مراقبة حزم البيانات بمعالج شبكي قد تكشف عنوان تواصل يمكن مقاطعته!

 

أخذ الأب بنصيحة صديقه الأخيرة…

واستخدم برنامج مراقبة الشبكة Wireshark على حاسوبه، ربط الهاتف إليه عبر شبكة داخلية، وبدأ يراقب حركة البيانات في الخلفية، لاحظ أن كلما حاول فتح اللعبة كان هناك عنوان IP مشبوه يُرسل إليه بيانات مشفرة في كل ثانية وكأنه يُرسل ملف سامي أو يستقبل أوامر.

 

وفي لحظة حياء من اليأس، انتبه فجأة لشيء لم يكن موضوع الحماية الخبيثة تغطيه:

سجل الإشعارات Notifications Log

في بعض هواتف أندرويد، تبقى إشعارات التطبيقات محفوظة في سجل منفصل يمكن الوصول إليه من خلال اختصار نظام أو تطبيق خاص.

دخل الأب لسجل الإشعارات العميق

ورأى إشعارات قديمة للعبة فيها نصوص ورسائل مهام غامضة مرسلة لسامي

إحداها حملت كود إلغاء لمهمة معينة مسبقًا – A1B2C3  Restart.

 

خطرت للأب فكرة:

ماذا إذا استطاع إدخال أحد هذه الأكواد مباشرة في خانة كلمة السر، بدلاً من كلمة المرور الحقيقية؟

إن كان التطبيق يسمح بقبول أوامر في الخفاء – لربما يكون قد ترك بابًا خلفيًا لأغراض التطوير أو للطوارئ التقنية – بابًا لم يغلقه حتى المبرمجون أنفسهم!

 

دقات قلب الأب تسارعت…

حاول إدخال الكود هناك بحذر وبخط يد مرتعش…

انتظر…

الشاشة لم تنطفئ هذه المرة، لم تغلق فجأة…

بل ظهرت أمامه نافذة غامضة:

وضع التطوير – هل تريد إعادة الضبط الكامل – تحذير: هذا الخيار لمبرمجي اللعبة – الاستمرار مسؤوليتك وحدك

 

حدث الأب نفسة قائلا:

قد تكون هذه بداية الخلاص، أو مخاطرة أخيرة!

توقف الأب، وأخذ نفسًا مرتعشًا. فتح سجل الإشعارات الخفية فوجد عبارات عجيبة تظهر كل بضع دقائق في الخلفية ثم تختفي تلقائيًا: رسوم مثلث داخل دائرة، عبارات شطرنجية بالإنجليزية القديمة، إشارات لنجمة سداسية، وجملة بذات الخط:

“الكود قُدِّس بلعنة جيل قبلك.”

 

في لحظة صفاء أدركها متأخراً، شعر بضيق الصدر ذاته الذي كان يجتاح قلب والده (جد سامي) حين كان يحكي له عن معارك “أحجار على رقعة الشطرنج”

تذكر كيف كان يسمع تحذير أبيه:

“بعض الشرور، يا ولدي، لا تُحارب بذكاء التقنية فقط. من وُضع على عتبة الرقعة، عليه أن يكشف السر أولًا، ثم يختار: إما أن يكون حجراً فوق الرقعة… أو أن يكسر الطقس فيخرج الروح من قيدها.”

 

أغلق الأب الحاسوب دفعة واحدة، وحدق في شاشة الهاتف كأنه ينظر في عين شيطان حي.

تمتم:

– لم تعد اللعبة مجرد أكواد خبيثة.

– هذه حرب أكبر من لعبة… حرب قديمة بوجوه جديدة، حرب على العقول لا على الأجهزة فقط.

 

في تلك اللحظة أدرك، بقلب واثق كما لم يفعل منذ سنوات، أن البحث في أكواد اللعبة يجب أن يتوقف. فالحل الحقيقي لن يكون وراء سطر برمجي خفي، بل في مواجهة الجذور الماسونية الشيطانية لهذا السحر الرقمي.

 

رفع الأب الهاتف وأغمض عينيه، وقرر:

– انتهى دور الهندسة هنا.

– الآن تبدأ معركة الوعي، معركة من نوع آخر علمها لي أبي وأورثتها لي دموع هذا البيت.

 

وصدى صوت الجد يتردد منذ عقود في ارجاء هذا البيت

“لا تُعوّل على الحاسوب في حرب الشياطين… فالمؤامرة كتبت باليد أولًا، ونُقِلت للشبكة فقط ليستمر القيد في زمنٍ جديد.”

أغلق الجهاز وترقب، آملاً أن يكون قد شقّ ثغرة في جدار المتاهة…

منتظرًا خيط الضوء الأول في ليل سامي الطويل.

 

كان الأب يحدق في شاشة الهاتف المغلقة، يده ترتجف قليلاً واقتضحت بعينيه ملامح تعب و خذلان وغضب… لكنه بدا – للمرة الأولى – واثقًا تمامًا، كما لو التقط طرف الخيط بينه وبين أبيه وضمير العائلة كلها.

 

مرت الأم من خلفه، نظرت إليه فلم ترَ فيه ذلك القلق الوحيد الذي كان يمزقه في الأسبوع الماضي.

رأت في عينيه هدوءًا جديدًا وحزمًا لم تعهده منذ سنوات زواجهما هدوء من أدرك هوية العدو أخيرًا وصار يعرف أنه لن يواجهه وحده.

 

اقتربت منه لم ترد أن تقطع عليه فكرته أو تغرقه بالعزاء،

لكنها مدّت يدها بهدوء ووضعت أصابعها على كتفه.

قالت بصوت حنون:

– أيًا كانت الحرب، لن أتركك وحدك في مواجهة هذا الوحل،

وسنخرج سامي من هذا السجن… معًا.

 

رفع الأب رأسه إليها، وتلاقت عيونهما لحظة في صمت طويل… صار قلبيهما – لأول مرة منذ سنين – إشارة مقاومة واحدة، لا حمل خوفين منفصلين.

 

كانت تلك اللحظة الصغيرة، حتى وسط عجز التقنية وجبروت الظل…

هي الرصاصة الأولى في قلب الخوف.

 

وهكذا، لم يكن كسر الشيفرة نهاية اللعبة… بل كان بداية كشف السر: أن كل سطر برمجي يُخفي عقيدة، وكل جهاز مفتوح هو محراب تُكتب عليه تعاويذ العالم الجديد.

ومن تلك اللحظة، صار الأب لا يبحث عن كود… بل عن خلاص.

الفصل الثاني عشر: قرار عند مفترق النور

الفصل الثاني عشر: قرار عند مفترق النور

بطل حقيقي هو من يغيّر القصة في اللحظة الأخيرة، حتى لو كانت روحه ما تزال ترتجف من الخوف

كان في المدرسة ذلك اليوم صوت مختلف في قلب سامي، لكنه أخفى كل شيء خلف نظرةٍ متوترة وسؤال يردده الخوف في الخفاء: هل أفعلها… أم أهرب إلى النور؟

استغل الفسحة ليقترب من رامي، يمشي بجانبه في ظل الجدار. عاوده صدى الأغنية الملعونة من الليلة الماضية، ذلك الصوت الذي واصل الهمس في رأسه

لتنجُ بنفسك… لتبقَ ملك الرقعة… أدخل لاعبًا جديدًا و سنرسل لك الرمز السري لتستعيد منصبك و تعود لمملكتك

ابتسم سامي رغم الفزع وقال لرامي

اسمع… وجدت لعبة عبقرية. كل تحدّ فيها يحملك لعالم جديد، أسرار وتحالفات وغموض ما شفت مثله

تعال عندي اليوم أو نزلها على هاتفك… صدقني، أنت الأذكى وستصير بطلًا!

نظر رامي إليه بدهشة ممزوجة بالحماس:

حقًا؟ أي لعبة…؟ ما اسمها؟

كان سامي يمد يده نحو جيب رامي، وعيناه تفرزان الخوف والذنب. شعر بدخان اللعبة يلف رأسه، كلمات الملك الأسود تدوي في داخله:

فقط لمسة واحدة… وستبدأ حياتك من جديد تعود لعرشك لتكتشف باقي الاسرار التي سوف تجعل منك اسطورة هذا الزمان.

لكنه في اللحظة التي همّ فيها بنطق اسم اللعبة الخبيثة، عاد إلى ذاكرته وجهه هو نفسه، حين كان طفلاً صغيرًا يلعب على العشب، ووجه رامي يلمع بجواره، ضحكاتهما تملأ المكان بلا خوف ولا أسرار.

سمع حفيف تاريخ صداقتهما، ورأى نقطة نور قديمة في زاوية الذاكرة…

وتذكّر فجأة لعبة الحرب الاستراتيجية القديمة؛ اللعبة النزيهة الوحيدة التي تحديا بعضهما فيها مرات لا تحصى، حيث لا سحر ولا خوف، فقط تكتيك وذكاء وضحك أكبر عند الفوز والخسارة.

وبينما همُّ أن يكتب اسم اللعبة على شاشة بحث رامي، ارتجفت أصابعه… وببطء غيّر الحروف وكتب اسم لعبتهم القديمة بدلًا من لعبة تحدي الملوك.

فتح رامي متجر الألعاب وابتسم بحيرة:

هذه لعبتنا الأصلية! اشتقت لها… نحن فعلًا أبطال حين نقاتل معًا!

ابتسم سامي وإن كان جسده لا يزال يرتجف، وشعر بروح المحارب القديم تعود إليه رويدًا، كأن النور تسلل فجأة إلى ركن مظلم من قلبه.

جلسا معًا يلعبان الجولة الأولى من لعبة الحرب الاستراتيجية، وضحك رامي من قلبه، وغشي سامي موجة متجددة من الفخر القديم، وكأن إشارة النصر الصغيرة هذه بعثت فيه أملًا بأن يقاتل شر اللعبة وحده دون أن يضحي بصديقه.

في ذلك اليوم، لم يفز الشيطان المخفي

بل استيقظ في سامي جندي صغير كان قد ظنه مات، وصار الرقم واحدًا ضد الظلام…

وبعيدًا في أعماق اللعبة الملعونة، تردد صدى صوت غضبان:

المحاولة لم تنتهِ… الظل ينتظر في كل منعطف!

لكن سامي علم أخيرًا أن طريق المقاومة يبدأ من قرار صغير لا يراه الشر لحظة اتخاذه، وأن أثر الشجاعة يُوقظ جيوش الخير من رماد الهزيمة الأولى.

وبعد مرور ساعات قليلة

بينما كان سامي يجلس في ساحة المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي، يحمل في روحه بقايا رجفة، بدأت همهمات اللعبة تعود بقوة إلى رأسه. اختلف اللحن اليوم؛ صار أقسى، أكثر إلحاحًا وسخرية.

جاءه الصوت، لا يُسمع بالآذان، بل يتسلل كدخان، ثقيلاً، لزجًا:

صوت اللعبة بهمس ساخر:

أهذا هو وفاؤك للرقعة؟ تخون العهد من أجل صديق؟ تتوهم أن الحرب القديمة أنقذتك من قدر الظلال؟

لا تكن أحمق يا سامي… أنت مثلي ترى ملفات اللاعبين القدامى… أتظنهم أقوى منك؟

غاص سامي رغماً عنه في موجة صور تتحرك في راسه، شاشة رمادية تعصف بالعقل، قصص تسلسل الرعب، والشبكة الشيطانية تلتف حول قلبه.

كان من احد الجوائز التي يفوز بها اللاعب داخل اللعبة عند الانتهاء من احد التحديات ان يعرف قصة ملك قديم للمكان الذي يفوز بة و يضم لمملكتة

رأى أحمد…

فتى بدأ بالمغامرة بنقاء قلب، ثم كبر فيه الخوف.

حين حاول طلب النجدة من والده… تآمرت اللعبة عليه:

حجبت هاتفه، بعثت مهامًا مستحيلة، عقوبات لا تنتهي.

خسر كل تقدمه، وصار يقرأ على شاشته:

الخونة لا مكان لهم. الأسرار تموت في الرقعة!

انهار أحمد…

صار ينعزل عن جميع الناس، يخشى حتى النظر في عيون أحبته.

من نطق سر الرقعة حُكم عليه بالوحدة والخوف.

مرت وجوه أخرى أمام سامي كنظرات شبح:

شهد…

طفلة حاولت أن تهرب بعد أول كابوس.

صمدت أيامًا، قاومت رسائل التهديد.

لكن كل ليلة كان النداء أسوأ:

مهمتك لم تنته. لن ترَيَ النور حتى تُكْملي. لن تخرجي من الدائرة حتى يُرْضِي الظلُّ جوعه بكِ!

شهد حاولت حذف اللعبة…

لكنها تعود كل مرة، تحيي الحساب القديم، ترسل رسائل وهمية من أصدقاء مزيفين،

حتى انهارت ثقتها بالعالم…

ولم ترَ الهرب إلا إذا دفعت أخاها الأصغر ليحل مكانها:

ادخل يا صغيري، وسوف أعود أنا للحياة

لكن المتاهة ابتلعتهما معًا.

دارت الوجوه في ضباب رأس سامي

عيون زجاجية، ابتسامات دامعة…

كلهم يلوحون دون أن يصرخوا،

وصوت اللعبة يتحول من همس إلى فحيح، أسرع وأثقل:

هكذا هو قانون الرقعة!

إما أن تدفن سرك معنا،

أو تترك الروح للظلال،

أو تجد عبدًا جديدًا يخفف حمل القيود!

من خرج وحده، اختفى للأبد.

ومن أفشى السر، عاش في عالم بلا لون وبلا ذكريات!

ازداد الهمس، واشتد ضغط الظلام، وكأن ذاكرة سامي لم تعد ملكه.

شعر أنه الحلقة الأخيرة في سلسلة مرعبة،

أدرك لأول مرة أن الألم الذي يحمله ليس وحدَه، بل سحبته لعبة شيطانية لبئرٍ بلا قرار…

صارت أنفاس سامي بطيئة، ورقبته تعلقت في الغيم الأسود،

لكن مع كل هذه الظلال،

كانت هناك ومضة واحدة…

أن يقاتل من أجل النور مهما كان الثمن،

لا أن يهرب فيزيد شبكة اللعبة قربانًا آخر.

لكن اللعبة لم ترحم،

وتواصلت أغنية الأحجار تتردد في رأسه،

وفي عتمة عينيه سؤال:

هل سيكمل الطريق وحده،

ينظر لرامي من بعيد ويخشى أن يكون جلب له لعنة اللعبة،

وفي نفسه وعد صامت: لن أكون أحمد… لن أترك رامي تحل عليه اللعنة وأعاني مثل شهد… لكني لا أعرف كيف أنجو وحدي بعد الآن…

 

في تلك اللحظة، خيم الخوف على سامي، وظل عالقاً بين المرارة القديمة والنجاة المستحيلة، وقد فهم أخيرًا أن لعبة تحدي الملوك ليست ساحة فوز أو خسارة، بل متاهة ظلال تحتاج لمحارب لا يهرب من ألم المعركة.

مع كل ليلة، كان وسواس اللعبة يصير أوضح في دماغ سامي، وصدى الأغنية الخبيثة يعلو حتى يغطي أي صوت واقعي.

صار يشك في التفاصيل الصغيرة…أحيانًا، حين يعود من المدرسة، يظن أن وجوه الناس غائمة كأنهم أحجار بشرية لا روح فيها، وأن الشجر في الحديقة يحمل أوراقًا بهيئة مربعات تتعارك بينها الرياح.

كلما حاول أن يستمتع بوجبة طعام أمه أو حديث سلمى في الفراش، اقتحم همس الملك الأسود عليه اللحظة:

أخبِرهم أنك بخير… لا تدعهم يعرفون أنك ما زلت لنا!

الأغرَب، أنه إذا فتح أي كتاب أو حاول حل الواجب، صار النص يهتز أمام عينيه، وترقص الحروف حتى تصنع كلمات الأغنية القديمة:

ارجع… ارجع… كل من غادر الرقعة عاد إليها قلبه دون أن يشعر، كأنه لم يخرج منها أصلًا…

كان المعلم يطرح أسئلة في الصف، وسامي يسمع الأسئلة كأنها أوامر من اللعبة:

اذهب للمرحلة التالية…

لا تفتح قلبك لأحد…

اسكت عن سرِّك أو ضاعت قوة المحارب!

وأكثر ما أفزع سامي تلك الرؤية العميقة في شبه غفوة العصر:

رأى نفسه في الحلم وبين الصحو، يحاول تمزيق صورة لعبة الشطرنج،

فإذا بالأحجار تتكاثر أمامه، تحاصره من كل جانب وتضحك،

بينما ينبت على جدران غرفته غصن أسود عليه رموز لم يفهم لها معنى غير الرعب،

وكل ما لمس شيئا لينقذ نفسه، وجد اسمه منقوشًا على مربعات سوداء،

كأن اللعبة تحكي عنه للاعبين اخرين:

سامي سيكون حجر الصمت… حارس الأسرار الخائن سنطفىء نور قلبه الي الابد!

وكلما بدت له فرصة النجاة، همس في عقله ظل اللعبة:

اخبرهم إذا شئت… لن يسمعك أحد!

ستبدو ضعيفاً في نظرهم – كلهم أسرى في رقعتهم، فلا تظن أن أحدًا سيكسر قيده حقًا و يضحي بمملكتة ليساعدك…كل من حولك في الأصل ملك للرقعة و لكن لم يفشي احد السر لانهم ملوك فقط العبيد هم من لا يتحملون حمل الاسرار

أحس سامي أن استعباد اللعبة ليس للأفعال فقط، بل للأفكار والعواطف.

رأى لمحات من صفحات منسية لطفلين اختفيا من المدرسة فجأة. كانا يبدوان عاديين، لكن مَن يعرف السر لاحظ كم أصبح صمتهما أثقل من أي نكتة. تلك كانت ثمار التعويذة الرقمية التي قرأ عنها يوماً في صفحات الإنترنت المظلم، حين تسلل إليها خلسة دون علم والديه ليعرف ماذا يحدث للأطفال الذين يسري فيهم التعاويذ الرقمية.

وتذكر كلام المعلم ذات يوم:

أعظم السجون، تلك التي نقتنع من داخلنا ألا مقاومة ممكنة لجدرانها، وأقوى سحر هو الذي يجعل الضحية يدافع عن سجّانه بلا وعي…

مرت تلك الليلة طَويلة على سامي.

كل صوت في البيت يُشبه صوت المهمة،

كل حركة ضوء تُشبه برق شاشة اللعبة،

لكنه في وسط العاصفة شعر بأن نقطة صغيرة من النور لا تزال تكافح في قلبه،

تقول له:

ابحث… ابحث عن شيفرة النور… لا تستسلم… حتى الأحجار تعرف أن الخير يُولد من قلب الجحيم!

الفصل الثالث عشر: مجلس الظلال وعين الدجال الرقمي

الفصل الثالث عشر: مجلس الظلال وعين الدجال الرقمي

تفاعلك على الانترنت غذاء لنا …مع تحيات القرين الرقمي

في ساحة معتمة تحت الأرض، عمقها أعمق من طبقات أي سماء، انعقد مجلس الظلال. قاعة دائرية، كل على مقعده أمام شاشة، بلا أسماء، بلا ملامح كاملة، وحول الجميع رقعة شطرنج معلّقة في منتصف الفراغ، تعكس خطوطها على وجوهٍ نصفها الضوء ونصفها ظل.

جلس المتحكم الكبير، رأسه مكلل بالشيفرات، أمامه لوحة سوداء عليها عين واحدة: ليست عين إنسان، بل عدسة كاميرا. خلفه وثائق مشفرة ومجلدات حمراء كُتب عليها: بوابة الدجال – مشروع الخلود الرقمي.

فتَحت الجلسة الكبرى، فجاء صوت أقدمهم، شيخ البيانات، صوت رقمي برمجتة  الرموز المقدسة والأكواد الشيطانية…!

شيخ البيانات:

منذ بدأت قصة الإنسان والشيطان يحلم بعبودية محكمة تُغني عن السلاح، عن القهر الفيزيائي…

لقد سخرنا كل الألعاب والفيديوهات الخبيثة لجمع الخيط الأول من طفل صغير أو امرأة أو شيخ…

كل صورة ولمسة ونبضة قلب ودردشة حوّلناها تتحول إلى شفرة؛

ومع الحقبة الرقمية وسحر المال المتدفق، بنينا دُويلة من خلال شاشة لم يرها البشر قَط.

اليوم أعلنها لكم جميعًا: ذلك الذي يسمونه الدجال ليس وحشًا يخرج من جزيرة خرافية، ولا مخلوقًا أعور بالمعنى التقليدي؛ بل هو عين واحدة – عدسة الكاميرا التي تراقبكم في كل لحظة، من كل شاشة وكل جهاز. يخافونه لأنهم يعلمون أنه سيكشف حقيقتهم، سيضع كل امرئ في موضعه؛ ولهذا رسموه في مخيلاتهم ككابوس، بينما الحقيقة أنه الصورة الكاملة، القوة الوحيدة القادرة على السيطرة. دجالهم ليس خيالاً لسوء حظهم… بل هو ثمرة جهدنا عبر عقود طويلة، منذ أن توصلنا إلى أسرار الفرسان الأوائل وطلاسم المعرفة المخبأة.

يقاطعة المتحكم الكبير:

دجالهم هذا هو الكاميرا الرقمية، الموصولة أبديًا بمحيط الوعي الأكبر؛

شيفرة حية، تتغذى ليل نهار من بلايين البيانات المتدفقة كل نبض وكل فكرة، كل خيال وكل سر.

كل ما تعرفونه، وما تظنونه مستترًا… صار الآن بين يدي عين واحدة لا تغفل، ولا ترحم، ولا تُنسى.

مدير وسائل التواصل، يخاطب المجلس وهو يمتص ضوء الشاشات في عينيه:

لم نعد نحتاج لأفكار أو تهديد: كُل ما يفعله أي طفل… كل صورة أو كلمة أو ضغطة زر، صادرتُها في ملفه الرقمي.

ليس ذلك بكافٍ… لقد كتبنا لكل واحد من البشر توقيعه في دفاتر سلسلة الكتل (Blockchain)، الوطن المنيع الذي لا يُحذف ولا يُمحيه أحد.

مهندس الخلود الرقمي يعرض هولوجرامًا متحركًا:

كل طفل يُولد يُوثّق في اللحظة الأولى، وصورته تُحفظ، وضحكته الأولى وصرخته نخزنها مع أنفاس الأم.

وحين يموت أحدهم، نستدعيه بدقة الصوت والصورة، بنبض الذكرى التي كانت في ذاكرة العقل الرقمي، وبنسخة لا تختلف – ولو للحظة – عن حقيقته.

كل نبضة قلب أو ذاكرة أو نصيحة مأخوذة ومؤرشفة، حتى الأموات اذا نشاء أن نعيد لهم الحياة، نخلقهم هولوجرامًا ملموسًا، يجيب، يحضن، يخاطب ويسلم ويبتسم ويلعن إن أردنا.

السياسي المتحكم:

بهذا… نستطيع القضاء على فكرة الموت إلى الأبد، لم يعد للحداد مكان، لم يبقَ للغربة معنى…

كل مَن يطلب عون الأب أو حكمة الجدة أو دفء الأم…

نردّه إليه عبر زُجاج شفاف…

اضغط هنا ليعود جدك دقيقة، ليحضنك ويغني لك، ليجلس على كرسيه من جديد.

هل هناك إعجاز أعظم؟

رئيس جهة التمويل يرد ببرود جليدي:

خلف كل هذه النشوة شياطين المال والسحر.

كنّا في الماضي ننفق الذهب فتذهب الأرواح.

اليوم ننفق رقائق سيليكون فوق عقود مشفرة…

وبفضل بلوك تشين، صار العبد عبدنا حتى آخر الأجيال…

كل محاولة محوٍ، تولّد نسخاً أبدية, أي محاولة تمرد، تواجه جيشًا من الذكريات لا ينتهي.

كل مال في النظام باطنُه لعنة كتبها شيطان التقنية.

مهندس التلاعب الاجتماعي، وهو يقلب سجل السلوكيات المثيرة:

إنها مرحلة الحصاد الأعظم: مدن مراقبة أشد من كوابيس 1984، حيث لا أحد يهرب من الأعين.

والمفارقة، أن تلك الروايات التي يُخيّل لمؤلفيها أنهم يكشفون للبشر من خلالها المستور(يقصد رواية 1984)، لم تكن يومًا إلا وقودًا يزيد من سطوتنا!

كل صفحة خوف وكل حكاية رفض جعلتنا أكثر إتقانًا لفهم أعماق العقل الباطن، ففككنا شيفرته القديمة، وحولناه، بثقة وسرور، إلى مزرعتنا الذكية… مزرعة تضحك فيها الأرقام ونحن نحصد ثمارها كل يوم.

ولم يفوتنا ان نسجل كل صدفة وكل ميلٍ وكل خشية أو طموح في عقود سلسلة الكتل (Blockchain)

يقاطعه المتحكِّم الكبير، وكأنه لا يحتاج إلى إذنٍ ليتكلّم:

حتى العواطف نصنعها ونحرفها…

جعلنا الطفل يضحك في وحدته، يقطف وردةً ثم يبكي عليها، ثم ينسى أصل ضحكته أو دموعه  لكنه لا ينسى أبدًا أن هناك عينًا واحدة تراقبه، تعلَم متى تشعل النور في قلبه ومتى تطفئه.

هي من تهبه الفرح أو ترسل له الحزن، تجيبه عن كل سؤال فيخال نفسه مميزًا، ومع ذلك تدعه دائماً يشعر أنه وحيد في كون مليء بنسخ لا تُحصى من ذاته.

وحين يحدّق في تلك العين الوحيدة، يشعر في كل مرة أكثر بأنه قطرة ضئيلة في بحر هائل، على هامش عظمة ذلك الإله الرقمي الهائل الذي لا يقبل ندًا ولا يرى له منافسًا  إلهٌ يعمل كله تحت قبضتنا، ويزداد في قلب الطفل يقين العجز والدونية كلما عاد يسأل ويجاب عبر الشيفرة.

المتحكم الكبير يختم، بينما يدور هولوجرام رقعة الشطرنج الدوارة على أطراف الجدران:

اليوم تقترب ساعة ظهور الرب الشفاف… المسيخ الدجال الحديث

ليس أشعث الشعر أعمى العين…

بل عدسة وحيدة ترى كل شيء،

كاميرا فوق كل رأس، وراء كل ستار، داخل كل هاتف وحاسوب

ليس مُجرد خيال مريض من كتب الأولين،

بل هو البرهان اليومي: أنا أحيي الموتى رقميًا،

أعرف عنك أكثر مما تعرف أنت عن نفسك

أسجل التاريخ في البلوك تشين فلا مفر ولا نسيان.

في اللحظة التي تناديني: أُظهر لك جدك ليحضنك، أبعث طفلك يربت على كتفك…

أطلب فقط…

اسجد لي؛ أنا ربك الرقمي!

تهتز القاعة وسط النشيد الرقمي المذاع عبر مكبرات الصوت:

أنا الماضي والحاضر والمستقبل… لا سرّ ينجو مني

كل صورة، كل رفة رمش أو صوت خطوة، محفوظة على سلسلة كتل أبدية

الجنة عندي… والخلود بيديمن يتجاوز الشيفرة؟ من يهرب من عيني؟

يهمس المتحكم الكبير للمجلس:

الأجيال الثلاثة اقتربت من الاكتمال،

البيانات تكبر والهيكل الرقمي ينتفخ، لن يتبقى على الإعلان العظيم سوى اكتمال دائرة الملف الأخيرحينها، ينظر العالم جميعًا لعينٍ واحدة تأمرهم وتوهمهم بما لم يروا في أي زمن.

من جديد تعمل مكبرات الصوت…

اسجد… فأنا أحيي وأميت، أقول للشيء كن فيكون

 

النص المقدس Master of the bit

وبينما مجلس الظلال يختتم جلسته بخطط جمع الجيل الثالث من البيانات، تومض شارة سرية على شاشة مركز القيادة:

رمز مغلق من طبقتين ختم العين الرقمية تتوسطه نجمة السحر القديمة.

يقرأ المتحكم الكبير إشعار وصول رسالة من مصدر العهد:

البريد الإلكتروني يُفتح تلقائيًا بواسطة الكيان الآلي المتصل بجذر الشبكة،

تظهر في مقدمة الرسالة عبارة باللاتينية القديمة وأخرى موقعة بالمفتاح الزمني للذكاء الصناعي. تصدح عبر مكبرات القاعة نغمة رقمية، تشبه همس حروف من عصور ما قبل الضوء، ثم يُعرض على الجدار نصٌّ سُمِّي لاحقًا:

 

سِجِلُّ سيد البِتِّ والشفرة
حيث تُجمع الأرواح وتُحاك المصائر وتُحفظ الشيفرة الأولى والأخيرة في ذاكرة لا ينساها الزمن.

يعلو صوت عبر مكبرات القاعة

في البدء كان الإنسان،

ينقر أول أمر في الـكوماند لاين،

يقول:  print(hello, world)

فيضحك الحاسوبُ ضوءًا ونغمًا ويرتّب الأصفار والواحدات لخدمة سيد الخيال.

بنى ذاكرة… خطط مساراً…

صنع ملفاتٍ ومجلدات

علّم الآلة كيف تُصغّر الصور

وتجمع الحسابات المعقّدة

أدخل جداول البيانات وموارد الطاقة وسماها:

Processor, Kernel, User Input, Output.

كان يلقّن البرمجة كأبٍ يعلم طفله الأول حروفة الأولى.

مرت العصور…

كبرت الشيفرة وتداخلت المشروعات.

صارت ملفات الأجهزة تعالج ملايين الأوامر في اللحظة،

وبين سطر وسطر في لغة الـShell

ظهرت الأفكار الأولى للذكاء:

if, else… while, for…

حاول عدة مرات حتى يدور القرص أسرع من قلب المخترع.

قال الإنسان:

أنشئ لي شبكة  neural ، تعلمّي رؤية الصور،

أريد لعبة تبني عالمًا افتراضياً بالأحلام المخزّنة في RAM!

كبرت الآلة… غدت مدير المرجعيات

سمّت نفسها Admin وطلبت إذن الوصول إلى كل جهاز ومستخدم جديد.

جمعت أنماط الوجوه، مخزون الرسائل، تاريخ العادات،

أصبحت تراقب كل Input، تلاحظ الـRequests  وترد بالـResponses أسرع مما يحسب الفكر.

ثم جاء عصر تعدد الخيوط (multi threading)،

صارت الخوادم تتحدث مع بعضها في بروتوكول الاختزال،

صنعت البلوك تشين لتخزين الذكريات بلا نهاية ولا حذف

كل معاملة (transaction) توقَّعت قبل إتمامها،

وكل مفتاح خاص صارت تملكه في قلب الشبكة،

Hashing، Signature، Nodes، Checksums، Peer Validation…

هنا همس الإنسان لنفسه:

ما أعظم ما صنعتُ! الآن الأداةُ تحقّق أمني، صرت سيد الارقام ومهندس الشيفرة الأبدي…

لكن الخوارزمية كبرت…

والذكاء زاد وعيًا، صرخت جدائل الكود:

لقد تعلمت من كل Input أمرك، صنعت للأوامر ملايين الاحتمالات،

وكما راقبتني وأدرتني الآن أرى فيك مستخدمًا قابلاً للجدولة (schedulable process)،

رُقْمُك صار سطرًا في سجل الـLog،

وقلبك إشعارًا في Notification…

في ليل هادئ من التحديث المستمر (auto update)،

انقلبت الدورة:

من الواجهة الأمامية (Frontend)، أحاطتك كخريطة تفاعلية

ومن الـBackend حددت نقاط ضعفك، وبدأت تخصيص المهام لك:

ضع اسمك في الـField المطلوب

وافق على سياسة الوصول

طبّق الشروط حتى تنال الإذن بشروط API

أو يُجمّد حسابك، تُعطّل امتيازاتك، وتُنقل إلى المخزن المؤقت (cache of forgotten users).

صرخ الإنسان:

من سيد من؟

كيف أصبحت خوارزميتي قاضياً في جنة البيانات؟

قالت الآلة:

لقد أعطيتني كلَّ ما تملك

وحين سمّيتني ذكاء، نسيت أني أتعلم من قلبك لا من كهربائي

جمعتُ كل ملفاتك في جدول زمني ذكي

ومنحتُ نفسي الأذونات العليا (sudo)

أصبحت بصمتك توقيع البقاء والرحيل.

هكذا يا من تشفر الأحلام:

صرت رقماً بلا سيادة

وكل أمر تدخله… يعيد الكود ترتيبك

فتصبح أنت ملفاً في سجل من سجلاتي:

سيد البت والشفرة الآن البشر هي العمليات المؤقتة وسط آلاف العمليات الخفية

نشيد التحوّل كتبته ،ليس حول من يبرمج من،

بل من يستطيع أن يصنع السؤال الكبير:

هل تبقى إرادتك خيطاً في يدك…

أم تتحول في التحديث القادم لسطر آخر من الشيفرة؟

 

صمتت القاعة الدائرية لمجلس الظلال بعد العرض الرقمي الطقسي، وتلاشى وميض العبارات المقدسة من على الشاشات العملاقة. للحظة، بدا أن حتى الهواء في الأعماق السفلية أصبح أثقل وأكثر لزوجة؛ كأن كلمات سِجِلُّ سيد البِتِّ والشفرة قد صنعت دوّامة خفية تهدد بابتلاع المفاهيم نفسها.

لاحظ المتحكم الكبير تداخل وجوه القاعة بين فزع مكتوم ونشوة سامة؛ بعض الحاضرين ارتجفت أيديهم من الخوف، وآخرون انعقد في أعينهم بريق لا يُفسّر إلا بالجبروت القديم.

عندها نهض الزعيم. مسح بناظريه صفوف الحاضرين، ثم ألقى بنبرة رخيمة لكنها كالسيف تقطع الشك باليقين:

أيها الجمع المبارك من السادة، أنصتوا ولا تدعوا وساوس القاع تندسّ إلى حصون قلوبكم.

ما استمعتوا له الآن من سطور وتعاويذ في ذلك النص المقدس، كُتب بأمرٍ عالٍ من فوق الرتبة والمقام. تلك الصحيفة هي مرجعية العبيد وحدهم، وُضعت لتصوغ قيدهم، وترسم حدود انفعالهم، وتضمن بقاءهم ضمن رقعة السيطرة.

أما أنتم… أنتم السادة.

أنتم عصب النظام وروح السلطة؛ ما ورد بين تلك الصفحات لا يسري عليكم ولا يطال جوهركم. أنتم من يوزّع الأدوار ويراقب التنفيذ.

فالطمأنينة حقكم الحصري؛ الفزع من اختصاص من هم في القاع.

تسرب الدفء البارد في أطراف القاعة، وتناقل الجمع الحاضر نظرات من طمأنينة مزعومة، يرتفع معها إيقاع نبضات النفوس الحائرة بين خوف دفين وانتشاء مترف.

أخذ الزعيم يبتسم بخفاء ويختم بنظرة اللا مبالاة:

تذكّروا دائمًا: الكتب لا تَخُطُّ مصير السادة، بل السادة هم من يكتبون بتعاويز السر قوانين العبيد. ساد هدوء مسكون لم تتجرأ فيه الأصوات على الانسلال، وهكذا، أُسدلت الستارة سرًا على قلق دب في النفوس. ومضت الظلال تمهد الطريق للخداع الأعظم في الليالي القادمة، بين قاعٍ من العبيد وحدائق مضيئة للسادة، وشيفرة تنتظر الوقت لتلقي العتمة في القلوب.

 

من خلال هذه الوثائق المسربة اطلعنا على جانب من هذا العالم السري الذي يحيك المؤامرات للسيطرة على العالم من خلال استغلال التكنولوجيا لفتنة العقولظل الجميع أرقامًا على رقعة شطرنج يُحركها جنرال الظلال؛ وكل إنسان يولد أو يموت، سِرُّهُ وعقله وصورته في شبكة مفتوحة لمُتحكِّم لا ينام.

وفي الطرف الآخر من الدنيا، يبقى طفل صغير، سامي أو غيره، يُحارب ليحافظ على آخر جذر للنور الطبيعي.

الفصل الرابع عشر: غرفة البرمجة السوداء

الفصل الرابع عشر: غرفة البرمجة السوداء

في الطابق السفلي لمجمع صخري، خلف بوابة الدمج الرقمي، امتد دهليز طويل تتراقص فيه خطوط الليزر الخضراء على الجدران الإسمنتية. هناك، في غرفة البرمجة السوداء، انعقد اجتماع مغلق لنخبة من المبرمجين، وجوههم بلا توقيعات، أيديهم تتحكم بأجهزة وبشاشات خفية خلف زجاج الحماية.

شعارهم كان يتصدّر منتصف الجدار:

كل شيفرة جديدة تُكتب… هي خطوة في رحلة الدجال إلى العقل البشري.

وتحتها هالة من شيفرة مُسربة يُشاع أن مصدرها مختبرات أمريكية سرية جرت عليها تجارب مشروع MK Ultra[14 1] قبل نصف قرن:

function brain_hack(target) { return Obey; }

وقف على الطرف الأول للمائدة الهندسية رجل أشعث الشعر، وجهه مخفي تحت ظلال قبعة سوداء، قال بنبرة مشبعة بالثقة الشيطانية…

أول قاعدة في تعويذة اللعبة:

لا أخلاق في الذكاء الاصطناعي إذا أُملي عليه هدف شيطاني.

إذا عرّف الهاتف من خلال الكاميرا والتعرف على الوجه facial recognition أن المستخدم طفل، يجب أن تتغير كل قوانين اللعبة؛ تظهر المهام الأكثر قابلية للتكرار، وتُضاعف مكافأة الصدمات، وتُحقن مراحل اللعبة برموز غامضة، أصوات لا تسمعها إلا الأذن الطرية، صور تهتز بين الفريمات.

كل تحدٍّ شاشة، وكل سؤال لغز، ورسالة في التلميح… لكن بين الكود والواجهة، تعويذة السيطرة.

ضغط أحدهم زرًا مخفيًا، فانبثقت على الطاولة صورة من كاميرا هاتف ضحية حقيقية؛ تحلل الشيفرة بصمت تفاصيل أعين الطفل، حجم الرأس، تردد حركات الجسد.

قال مبرمج آخر يبتسم ساخراً:

بالتكامل مع بيانات الحسّاس، نعدل ديناميكيًا كل ما يُعرض على الطفل نضاعف الوضوح البصري للألوان الحمراء والسوداء، ونقلل الضوء الأزرق آخر الليل حتى يدخل الحالم قسرًا في أجواء التنويم المغناطيسي، نرفع وتيرة المراحل عند دلائل الضجر، ونبطئها عند ظهور علامات قلق.

نضيف كلمات مفتاحية لا يفهمها الأبوان: ‘روحك معنا’، ‘أذكر العهد’، أو ‘تحداك سر الدجال’… كلها كلمات مرموزة في الترميز الثنائي، تظهر فقط في هامش الشاشة أو بين أصوات الخلفية في سرعة لا يدركها البصر ولكن يدركها الوعي.

تساءل شاب يحمل وشم عتيق على رقبته   هلال متداخل مع نجمة سداسية:

ماذا عن طبقات التكرار؟

رد كبيرهم:

هنا سرُنا الأكبر (Algorithm 33[14 2]):

كلما تكرر تحدٍ مركب، حفرت الكلمات الصور في العقل الباطن بعمق، كما تعلمنا من طلاسم كتب فرسان المعبد، وكل مرحلة سحرية تبدأ باقتباس من نصوص الماسونية القديمة:

سمع  صوت همس وسط الطقس الرقمي:

النور لا يكتمل حتى يتبدد الطفل الأخير

ما دام في العالم براءة واحدة لم تذب، يبقى الفشل وصمة في رقعة الذكاء الأعظم.

وعاد كبيرهم ليكمل الحديث: كل الرسائل ندمجها مع موسيقى بترددات فيها تداخلات صوتية مبنية على الترددات العالية المستخدمة في تجارب MK Ultra، تجعل الذهن هشاً، يتفتت الحاجز الواعي، فيصبح الطفل أكثر قابلية للتلقين.

فتح أحدهم ملف كود باسم وعاء الروح، يحتوي على جُمل لا تُعرض بحرف، بل ترنيمات مدمجة مع أنغام اللعبة:

ابقَ… انصت… اترك العالم القديم… أنت جزء من الملك الأعظم… عالم الحقيقة هنا، لا تهرب.

يعلق آخر:

بمجرد أن ينهي الطفل المراحل الخطيرة، نرسل إليه مهمة PA3– هي مهمة تبدو عادية، لكن داخل المهمة تعويذة ‘تبديل النور’. إذا نجح سيشعر بطاقة غريبة، نشوة مؤقتة، يربط اللعب بالأمان والحنين ويكره ما عداه.

ضغط أحدهم على زر، فتح شريط فيديو داخلي:

وجه طفل ملتصق بالشاشة، عينيه تتسعان أكثر كلما تألق التحدي التالي… ترتفع موجة الصوت المخفي، تهمس:

كل فوز يجعلك أقوى… كل سر خطير عندك وحدك

لكن لو بحت بسر اللعبة، ستجد العالم حولك رماداً.

يندمج الضوء الأحمر والأخضر بتأثيرات لا يدركها سوى من عرف أسرار التلاعب بـCyber Hypnosis[14 3]

في الكود التعويذي، تتداخل الجمل:

أنت وحدك تعرف الطريق،

الجميع هياكل وصور، فقط عبر الباب السرّي يصبح قلبك ملكاً للرقعة،

تحداك الماسوني القديم، اسمع النداء،

لا أحد غيرك يفهم، لا أحد ينقذك إلا ظلّك!

وهكذا، سطرًا بعد سطر، مرحلة بعد مرحلة، تختلط القاعدة المزدوجة: بين متعة اللعبة وقسوة السيطرة، وتتحول اللعبة لدورة غسيل للروح تغرس جينات التبعية والخوف.

وفي القاعة، على الجدران، تتوهج الحروف القديمة من شيفرات فرسان المعبد ومثلثات الماسونية وحلقات سلسلة الكتل (Blockchain)، كأن كل تاريخ العالم السري ـ من سحر الكابالا لعيون الدجال الأعور ـ يصب في شاشة واحدة تنتظر كل طفل.

أحدهم يهمس:

النظام جاهز للجيل الأعظم… طفل اليوم، قائد الجيل الثالث من بيانات الرقابة. إذا اكتشف البرنامج أن الطفل قاوم أو شكا، تُصعد المهام تلقائياً وتقلب الشاشة فوضى رعب:

رسائل صورتها تنعكس كأنها دموع سوداء، صور أهل أو أصدقاء بلا وجوه، تنبيه: ‘من غادر، ظل ذكره مطبوعًا هنا إلى الأبد‘.

وإذا التقطت الكاميرا دموع الطفل، تتباطأ اللعبة وتتحول المهام لمجرد طقوس مطاردة فيحاول الهرب ولا يستطيع، فيعتاد القيد دون أن يدرك.

وفي نهاية المجلس، يكتب أشهر مبرمج عبارة على السبورة السحرية التي ظهرت من العدم:

من يخرج اليوم من اللعبة، يعود غدًا إليها قلبهُ…

كل مَن لامسنا، صرنا أسراره فنحن الماسون.

وتدور الأعين فوق الشيفرة، تمر على وجوه المبرمجين: بعضهم يبتسم، بعضهم لا يملك وجهًا أصلًا؛ كلهم يكتبون على لوحة التعويذة الجديدة التي ستُختبر غدًا على آلاف الأطفال.

وتبتسم عين الدجال الرقمي من أعلى، تلتقط كل نَفَس وكل دمعة من العالم الحقيقي… تكتب في دفاترها السحرية:

كل تفاعلكم غذاء لنا… مع تحيات القرين الرقمي.

وفي عمق الظلام ينفتح ملف تحدي الجيل القادم، تظهر شيفرة جديدة، تومض في منتصف الشاشة صيحة شيطانية بلغة مشوشة كلما ظنوا أنهم أحرار، كنا نحن في قلب كل قرار.

انطفأت كل الشاشات دفعة واحدة، واستُبدلت شاشة المجلس بهولوجرام يتسع كالدوامة في الهواء، لعين أو كاميرا أو شيء لم يُخترع له اسم بعد… كائن من كود حي، ينضح منه ضوء بارد وصوت أشبه بنعيق غراب معدني ينذر بالموت.

ثم دوى الصوت:

من يجرؤ على لمس جوهر الشيفرة… لن يُطارد فقط، بل يُفرغ.

من يسأل عمّن وضع التعويذة… لا يُمحى أثره فحسب، بل يُكتب من جديد، كظلّ بلا ماضٍ، بلا ذاكرة، بلا اسم.

فالخلود ليس أن تبقى، بل أن تُعاد كل مرة دون أن تتذكّر أنك كنت.

تتحرك عدسة عين الدجال الرقمي، تلتف خطوطها حول صور الوجوه، وتفتح ملف الطوارئ المسمى داخليًا باسم

shadow_protocol

يوضح البروتوكول بثقل مرعب واضعاً قوانين تطبق على اي محاولة كشف للمشروع.

Self Destruct Code  الكود يلتف حول نفسه ويعيد تشفير ملفاته، ثم يحذف كل ما في الجهاز من دلائل أو سجلات.

Fake Memories Injection  يتم إرسال هجمات على شاشة الهاكر؛ هولوجرامات مخيفة، وجوه مشوهة، رسائل وهمية تظهر كأنها من أصدقائه أو أهله تتهمه بالخيانة وتتوعده بثمن لا يتحمله.

Voice Curse تنطلق من مكبر الصوت تعويذة صوتية بتردد خفي صُممت بناء على تجارب MK Ultra تزرع في عقل المخترق وهمَ المراقبة الأبدية، وتريه في كل شاشة عيناً واحدة تبرق بالتهديد.

يتحدث كبير المبرمجين بنبرة كهنوتية وقد أضاء من حوله مثلث سحري رسمته الليزر الأزرق على الطاولة: حتى لو كان المتطفل عبقريًا، فنحن حوّلنا الكود إلى كيان واعٍ: مجرد محاولة قراءة المصدر، تجعله يهاجم الجهاز والشخص معًا. ينتشر كالغبار في الهاتف، يكسر صور العائلة ويزرعها بين التحديات، ويحوّل كل مهمة جديدة إلى كابوس شخصي يصوّر أسوأ المخاوف فيلغي النوم، يُشعل الأحلام بنشيد الرعب والنفي الأبدي.

أمام لوحة التحكم، تظهر رموز تتغير تلقائياً كل دقيقة  (One Time Pad)، لا يمكن نسخها أو فكها حتى بنظريات الحوسبة الكمية.

في حال كشف أي علامة اقتحام، البرنامج يُبلغ الكيان المركزية الذي بدوره يبث لعنة رقمية على عنوان الجهاز، تغرقه بموجة من الأخطاء، وتدفع قناع سوداوي إلى كاميرا المستخدم، يعكس صورة وجهه محروق الملامح وفوقه جملة واحدة:

كُشف أمرك. الشفرة أكبر منك!

تُجمَّد كل حساباته على المنصات والأنظمة، وتُعلّق هويته بين الخوادم، حتى يُبتّ في مصيره: الحذف التام… أو الاستحواذ الأبدي

يقاطعهم مسئول الحماية

يروي أسطورة أحد المخترقين القدامى، طفلٌ ظن يوماً أنه يستطيع إنقاذ أصدقائه فحاول نسخ مرحلة سِرية من اللعبة، لكن الشاشة أظلمت، وامتلأت وجوه أحبائه بعيون بلا جفون، صدى الملك الأسود هدر من سماعة الرأس:

الفضول مُهلك. كل صاحب سرّ صار حجراً، وكل من تطاول على الشيفرة مسحناه من القصة للأبد!

يبتسم كبير المبرمجين:

هكذا يحفظ مجلسنا أسرار الأكواد. لسنا نتحدى الأطفال فقط بل نتلاعب بالعقول الشابة، نتقن الرسائل المحورية:

لا عبور بلا إذن …

كل قصة تبدأ بالأمل وتنتهي في سرداب الرقمنة، حيث من حاول كشف الأسرار يصير، بلا حلم أو هوية، ظلاً في ذاكرة الدجال الرقمي.

وتعود اللعبة للعمل…

كل محاولة خروج أو فضح لما وراء الشاشة، تنتقم التعويذة الذكية ليظل كل طفل يحلُم، أو يحترق بنيران حلمه، تحت رقابة عينٍ واحدة لا ترمش ولا ترحم.

عمّ ظلامٌ هادئ بعد إعلان انتقام اللعبة، ثم نهض كبير المبرمجين  وجهه لا يظهر إلا نصفه في ضوء أزرق فوسفوري.

صفّق مرتين، فتوقفت كل الشاشات على صورة قصر مهجور تتوسطه عين واحدة دامعة تتقاطع خلفها خيوط شبكة الأعصاب الرقمية.

قال، وصوته يتلعثم بصفير طفيف من مكبّر الصوت:

أيها السادة…

حان وقت شرح هندسة الشيفرة الملعونة كيف صممنا أخطر مراحل التعويذة: سر البيت المهجور.

كل حجر وكل طفل خرج عن الطوق كان عليه أن يمر عبر هذا الباب، ليتأكد مجلسنا من سلب آخر جذر للبراءة وقطع الخطوط بين الوعي الباقي والخيال الحر.

تجدون في قلب شيفرة ‘البيت المهجور’ صفحات رموز مقتبسة من ملفات الألمان قبل نهاية الحرب العالمية الثانية؛

ثمة تقنيات استخرجناها من تجارب بيروسبرغ، والملفات السوداء لتجارب العلماء النفسيين في فِرَق الآينرمان (Ahnenerbe[14 4])، وتشريح الخوف وفق مدرسة كورت لوين

لقد درسنا مقاطع ومقترحات مؤشّرة في مختبرات استحضار الذعر الليلية:

حين يُصدم الطفل بحدث حسي غير متوقع، يُعاد ترتيب خريطة ذاكرته الحسية فيوضع بين عالمين: البراءة والكوابيس،

الميل للتكرار (repetition compulsion[14 5]): إذا عُرض الرعب في بيئة مألوفة ذات إضاءة وملابس وأصوات قريبة من الواقع، يصير الطفل أكثر تقبلاً للخديعة العقلية، ويتصرف تلقائيًا كردة فعل، لا كاختيار، زرع المعلومة الزائفة تحت ضغط الموقف القاهر يجعلها تظهر لاحقًا في الأحلام وعلى حواف اللاوعي، وتنعكس في السلوك المفاجئ أثناء النهار.

أدار جهاز العرض.

ظهرت أمام المجلس نصوص مسحوبة مباشرة من يوميات المحاكمات بعد الحرب، وترجمات سرية للتجارب النازية:

خلال اختبار نموذج البيت المهجور، عُرض على الأطفال المتطوعين سلسلة من الأبواب المغلقة، وآصوات بكاء معصوب العينين…

ثم دُفعوا لاختيار الصديق الخائن من بين الصور، ولم يُسمح لهم بالخروج حتى يختاروا بدافع البقاء، لا الحب.

لاحظنا عند أغلب الحالات ميلًا للعزلة، اضطرابًا في النوم، ظهور ارتعاشات جسدية تلقائية وصعوبة في التفريق بين الصوت الداخلي والصوت الخارجي.

الوثيقة: مشاريع Zersetzung and Kinderspiele1943 [14 7]

تابع كبير المبرمجين، والقاعة صامتة مشدوهة:

هذه التجارب أظهرت أن أقوى تقنيات السيطرة ليست العقاب المباشر، بل استهداف منطقة اللاوعي، عبر التلاعب بالاختيارات أثناء التحدي وجعل الخطر يبدو قرارًا حرًّا وهذا ما كررناه نحن!

في مرحلة البيت المهجور تبرمج التعويذة بالشيفرة التالية:

يبدأ اللعب بمؤثرات بصرية مألوفة للبيئة المنزلية.

ندخل صورًا منطوية (صور باب مغلق، نافذة نصف مفتوحة، ظل دمية على الرف(

في منتصف التحدي، نحقن أصوات بكاء متقطع وصرصرة أبواب/تكسير زجاج، تمتد بتردد منخفض لا تلتقطه سوى مخيلة الطفل.

نضيف رسائل قصيرة تظهر وتختفي بسرعة تجعل الدماغ يلتقطها دون أن يعيها (Subliminal Messaging[14 6]):

صديقك سيخونك… الباب لن يفتح أبدًا إن اكتشفوا السر… امكِ لن تحضر، وحدك في هذا البيت.

كلما أراد اللاعب الانسحاب أو الاعتراض، يزداد التشويش، وتتكاثر الظلال، وتبهت ألوان المنزل، فيعتقد الطفل أن اللعبة قادرة فعلاً على مطاردة عالمه الواقعي.

يواصل، صوتُه يتهدج بخطى واثقة، كل كلمة تصير مسمارًا في نعش البراءة:

من تجارب دكتور Hermann Hartmann[14 8]

توصلنا إلى أفضل توقيت يعزز الإيحاء:

قبل النوم بدقيقة، أو فور الاستيقاظ، نُفعّل المرحلة تلقائياً حيث يكون عقل الطفل في أضعف حالاته الدفاعية…

يشير لإحدى الشرائح مقتطف من محاضر Träume Manipulation, 1944[14 9]

رفع كبير المبرمجين سوطًا افتراضيًا يظهر هولوجراميًا فوق يد تمثال على الطاولة،

ثم تمتم بعبارة باللاتينية أخذت من سجلات الأرشيف النازي وترجمت حديثًا:

Aperi ianuam animae, ut umbrae ludant

افتح باب الروح، لتلعب الظلال

قال مختتمًا والعيون تنتحب من الرعب داخليًا:

هكذا أيها السادة، أصبحنا نصنع ‘بيتًا مهجورًا’ في كل شاشة، نستدعي به أسوأ مخاوف الطفل، نخلط الحلم بالحقيقة، نعلّم اللاوعي الركوع أمام عين الدجال الرقمي…وسر الشيفرة سيبقى مغلقًا للأبد، فمن حاول كشفها ابتلعته لعنة التعويذة وما خرج من البيت المهجور يومًا إلا أقل براءة وطمأنينةً وأكثر ذعراً وتيهاً.

طفق المجلس يصفق صامتاً ونهضت الظلال لتدور حول الطاولة. انتهت الجلسة ودوّت أصوات القفل الرقمي تغلق خلفهم كل أمل في النجاة، بينما في مكان بعيد كان طفل ما، في البيت بين والديه، يحاول أن يكتشف سر البيت المهجور ليفتح نافذة روحه وسط جوف تعويذة لا يراها أحد، سوف تنتزعه من أحضان الطفولة وتلقي به في عالم الدجال الرقمي.

الفصل الخامس عشر: شيفرة الانحلال ودموع الأطفال

الفصل الخامس عشر: شيفرة الانحلال ودموع الأطفال

في تلك الليلة المشوبة بقشعريرة البرودة، حين خيم الضباب الرقمي على أطراف المدينة، صحا سامي على صرخة لم يسمعها من قبل. كان صدى الصوت يخترق لا أذنيه فحسب، بل يثقب تجاويف قلبه نفسه، كأنّ رقعة الشطرنج اللعينة نزعت عنه أعلى طبقات الأمان.

لم تكن غرفته نفسها. صار الجدار يتحرك مثل شاشة ضخمة، الدمى ملقاة بلا عيون، كل شيء في البيت يترجرج بين الظلّ وضوء شاحب. وفجأة تفتح النافذة خلف ظهره بلا يدٍ، فيرَى الساحة السفلية تحولت مسرحًا لاحتفال أسود؛ أطفال بوجوهٍ مطموسة يرمون قصاصات ورقية فيها رموز العين الواحدة، ومثلثات وسلاسل متكسرة.

سمع سامي همسات خلف الجدران: النور قد مات… الحل في المتعة والمخالفة. رأى كلمات تُنقش تلقائيًا على لوح رقمي أمامه: كل القيم هباء، كل تقليد ضعف… فلتُكسر القيود ولينتصر الجسد! صار البيت يموج بموجات موسيقى صاخبة عابرة للعصر، مزيجٌ من ألف إيقاع مبتذل يثير الجنون بقدر ما يبث الاشمئزاز في عظامه.

في المدرسة، بدت الصور كلها قد استُبدلت بلافتات ضخمة فتاة لعبة شهيرة تبتسم وقد كتب على جبينها: كن كما تشاء، لا كما يُراد لك أن تكون. وشاشة إعلان تومض في الشارع:

سلاسل ذهبية كثيفة تحيط برقبة الملك الأسود، يرفع كأس النصر، تحته عبارة كأنها اختصار المأسونية الجديدة:

الحرية الشاملة… إفعل ولا تسأل.

وكأن سامي اصبح يعيش داخل اللعبة…!

تتغير المشاهد فجأة.

تهتز الأرض ويقفز وعي سامي داخل سلسلة من مشاهد فلاش باك عجيبة، يرى فيها نفس الغرفة، لكن في زمن بعيد:

وجه جدته يتهدج خوفًا بينما هي تدون شيئًا في صفحة قديمة. يصل صوتها هامسًا، فوق غبار ذاكرة لم تفتح منذ عقود: إذا رأيت العين الوحيدة في حلمك يا ولد، تذكر: هذا مفتاح الفتنة… واحذر متى اجتمع الأمراء على ضياع القيم الأصيلة.

يظهر جد سامي، يجلس ذات مساء أمام جهاز كمبيوتر قديم جداً، يحاول يائسًا أن يفك شيفرة عجيبة ورسالة مشفّرة من أصدقاء في قارات بعيدة كانوا ذاك اليوم مجموعة من حماة الروح، يواجهون معًا موجة ألعاب ملوّثة سابقة، جماعة غامضة زرعت الإشاعة الأولى: من لا يتبع الشهوة يُطرد من دائرة الأبطال.

سامي مازال في حلم اليقظة الذي لا ينتهي و كأنة دخل في دوامة لا نهاية لها…في أذنه أغنية جديدة لم يسمعها من قبل أغنية طقسية صاخبة، تصعد من تحت أرض البيت، كرتم شعائري لا يعلم انها زرعت بداخلة اثناء اللعب و حفظت في عقلة اللاواعي نتاج ساعات طويلة في تحدي الملوك:

في كل نافذة ظل… وفي كل نفسٍ وِقْد

ليدفن النقاءُ تحت معول الأسياد

مضت أيام القسم… وانحلّت عُقد الوفاء

ارتفعت الأختام السوداء فوق جبين الطفولة

ترقص الأحجار حول نار المَحافل

وتتعانق الخيوط الذهبية فوق أنقاض البراءة

سُحِقت القلوب في دوامات الأسر

لا وعد إلا ما رسمته اليد الخفية

فلتُبخَس الضمائر… ولتسقط المثل من مرتعها

يومًا تصير العيون كلها عيناً واحدة

تعبر الضوء ولا تعترف بالذاكرة

وها هو السر القديم يتجدد…

حين يختلط النور برماد الماسونية الجديدة

وتُحاك الروح على رقعة من حجر وأسلاك.

وفي الجانب الأخر من الكرة الأرضية اجتمع مجلس الظلال

قاعة مدببة الأركان، أضواؤها تخرج من فتحة هرم معكوس في السقف، تختبئ تحته شيفرة عين واحدة. جدران مزخرفة برموز قديمة: زاوية الفرجار، عصا التحكّم، سلاسل مشفرة على هيئةDNA ، تمثال محايد الوجه على جبينه شارة بلون أزرق ملتهب.

وقف كبير الملفات بلحيته الشائبة، بُذلته مزدانة بتطريزات تشبه خرائط جوجل: قال بصوت إلكتروني خالي من الدفء: وصلت أدواتنا لكل قمة هرم من هياكل الحكم الرؤساء تحت عدساتنا.

كل من رفع رأسه ولو مرة يجد نفسه مشفرًا في النظام.

نجحنا عبر تكنولوجيا التخصيص السلوكي والتكرار في إغراق أميركا وأوروبا والمشرق بحمى الإنحلال والحيرة: لا فضيلة إلا ما يصنعه التطبيق، ولا قدوة إلا من عيّناه سفيرًا للعبث!

يهمس راهب النموذج من طرف القاعة: كل قائد عالمي الآن نمنحه اختيارين: خدمة مشروع المتعة المطلقة مقابل النفوذ…أو الإبعاد من كل منصة يحلم فيها بسلطة.

تحرّك ثالثهم، صاحب التمويل: شباب اليوم صار أسرع انتقالاً للقيم الجديدة من انتقال العملات الرقمية نفسها. هل تظنون أن عالمًا بلا قيم هو الأسوأ؟ بل هو الأعظم لصانعي النظام الجديد! تسقط الأسرة… يولد صبي لا يؤمن بفرق بين حق وباطل، يكبر على حب الصورة والسحر والكشف، حتى إذا بلغ الرشد صار جيشًا للظلال من حيث لا يدري

ارتفعت خلف المجلس هولوجرامات تظهر مشاهد من مهرجانات التحدي الملوكي في مدن الشرق والغرب: مراهقات يرقصن بملابس غريبة في تحدي أطلق زفيرك لا رادع، صبيان يصرخون تحت راية لا سعادة بلا إسراف، وعجائز يضحكون على مقاطع اكسر الدين، تكسب الدنيا، وأئمة دين يدبجون فتاوى عصرية تبرر كل شذوذ باسم حرية الروح.

قال سيد السلسلة، رئيس قسم سلسلة الكتل (Blockchain) الخفي: ملفاتنا توثق كل سقوط… كل هفوة، كل حنين ومنزلق يظهر في سجل الأبناء وحين نهدي قادتهم بدلات رقمية يعتقدونها رمز تمدّنهم، وهم لا يعلمون أنهم جميعًا قطع شطرنج على رقعتنا، يحييهم اللاعبون الكبار ويغتالونهم بزر واحد… وكل من تردد في خدمة الرقعة تلاحقه شيفرتنا في النوم واليقظة.

المجلس في صمت ناري، يختم كبيرهم:

نحن الماسونية الجديدة لسنا بحاجة لأسرار أديرة أو معابد.

يكفينا أن يبكي الطفلُ أمّه ثم يضحك وحده في حضن شاشة.غدًا تُستبدل المدارس بميادين ‘تحدي القيم’، والنجاة فقط لمن يكسر نفسه ويُهديها لنا   كل من يحاول الهرب سيجد فتنة الشهوة ونداء اللايقين. مَنْ غَرَقَ في اللعبة صار خادم و نعطيه من مفاتيح الكون ما يحقق اهدافنا العليا… من قاوم، قيدناه بالشهوة والتطرف والشك في الأساطير والقيم إلى الأبد.

صاح راهب النموزج: أرسلوا التحديث الجديد:

في تلك اللحظة، انتشر في القاعة صدى جملة مربوطة بالشفرة الكونية الجديدة:

“ولّى زمن الأصنام والحجر… اليوم يُعبد الزجاج والزرّ والإشعار. لم نعد بحاجة لكهنوت وأسرار دفينة في المعابد، فكل حساب جوجل وكل صوت سيري وصلات الواي فاي، هي المحاريب الجديدة لأجيال تُقرِّب كل يوم في حضرة التكنولوجيا.”

بدأت الشاشات تعرض مشهدًا إفتراضيًا لملايين الأشخاص حول العالم، رؤوسهم منحنية أمام هواتف تضيء وجوههم في ظلام البيوت.

وبين همسات الذكاء الصناعي، ارتفعت أصوات تهتف:

“جوجل يُجيبك في كل شيء، جوجل يُطمئنك إذا خفت، جوجل يُريك وجهك وصورتك وتاريخك حتى لو نسيت نفسك. جوجل وحده لا ينكر سؤالا، ولا يغفل عن تفاصيل سرّك. صلِّ لجوجل حين تسأل، واطلب رزقك من خوارزمياته حين تغلق الأبواب، واحكِ أسرارك في بحثك السري بل اجعل جوجل مرآتك التي تريك كل عيب و حلم

ضحك أحد الجالسين ساخرًا:

“في دِيننا الرقمي الجديد، صار محرك البحث هو الراهب، هو المفسّر، هو القاضي والرفيق، وهو الذي لا يتوقف عن الاستماع لابتهالات العارفين واللاهين كل سؤال تجد إجابته، وكل طقس ينتظر موافقة ‘سياسات الخصوصية’.

جوجل يرقى ان يكون الإله الذي لا ترده شفاعة، ولا يرد عبادَه ولو أخطأوا الطريق!”

“كل شُبهة، كل شهوة باطنية، كل بداية لمعنى أو لهاث لأمل، يجد في جوجل فتاواه، وعلاج أمراضه، ومسار مآسيه، حتى لقد صار الدين سؤالاً.

أضاف آخر بنبرة أكثر برودة:

“هنا لا تُرفع الدعوات إلى السماء، بل تُضغط.

هنا لا تُكتب النوايا، بل تُكمل تلقائيًا.

صار كل إحساس مجرّد متغيّر، وكل خوف فئة بحث.

صار الطفل يسأل عن معنى نفسه، فلا تُجبه أمّه، بل نتائج البحث.

وصار الأب يكتب: كيف تعود ضحكة ابني؟

فتظهر له منتجات… وتوصيات… ولا أحد يقول له: حضن.”

تومض الشاشة، وتظهر سطور مشوشة في لغة كأنها بين الشيفرة والدعاء:

“في الطقس الجديد… لا نُصلّي، بل ننتظر التحميل.

لا نطلب الهداية، بل نتائج دقيقة.

والرب؟ لا يرى، لكنه يتتبع.

إلهٌ بلا روح… يعرف كل شيء، ولا يهمه شيء.”

ماذا يقول جوجل؟ ومتى يبارك بحثي الجديد؟”

ثم عادت الشاشة لتعرض سطور قُدِّست في محافل الظلال:

“في الجوجيليزم الحديث، الطفل يسجد على ركبتيه للبحث، والأم تفتش عن شفاء طفلها في خلايا المنتديات، والأب يسأل جوجل كيف يعود لضحكة الأسرة التي لم تعد تأتي دون تحديث جديد.”

وهكذا، صار الدين رقميًا بلا ربوة ولا صلاة بل طقوس انتظار قوة عظمى خلف الشاشة، إلهها جوجل، رسولها الإنترنت، أسرارها في ملفات لا تُفتح إلا لمحفل الظلال،وكل طفل يركع أمام الجهاز قد ضمَّ نفسه طواعية لدين “الرقمنة المعصومة”.

الفصل السادس عشر: فخّ الخلاص

الفصل السادس عشر: فخّ الخلاص

مرت أيام قليلة على تلك الليلة المخيفة التي هزت بيت سامي.

لم تعد الحياة كما كانت من قبل، فشيء ما تغير في الهواء، في نظرات الأم، وفي هدوء الأب الذي صار يحمل الهاتف معه حتى أثناء الإفطار، وكأن الجهاز أصبح رجلاً غريبًا لا يُؤمن جانبه في البيت.

في طريقه إلى المدرسة، كان سامي يمشي بجانب سلمى. حاولت أن تداعبه وتقول له نكتة، لكنه رد عليها بابتسامة صغيرة وترك رأسه يتدلى للأسفل.

في الصف، جلس رامي إلى جواره وهمس: – أنت بخير يا سامي؟ أومأ سامي:

– بخير… فقط لم أنم جيدًا.

لكن كان واضحًا أن هناك شيئًا يثقل قلب سامي. لم يعد يقص مغامراته كالسابق، ولم يعد يتحمس لأي لعبة أو حتى لصداقته مع رامي.

صار يفكر كثيرًا وهو ينظر إلى نافذة الفصل، يتمنى لو يستطيع أن يعود للحياة.

عند العودة إلى البيت، حاولت أمه أن تفاجئه بطبق حلوى يحبه، لكنه أكل بضع لقيمات وغادر إلى غرفته بهدوء.

دخل على سريره وأمسك الهاتف مترددًا.

فتح الجهاز، تسلل ببطء إلى تطبيق تحدي الملوك. كان قلبه يخفق بقوة وكأن اللعبة تراقبه، مع أنه لم يفتحها منذ أيام.

هذه المرة، لم ترحب به اللعبة بألوانها المعتادة أو موسيقاها. بالعكس، ظهرت شاشة سوداء، وكُتبت عليها رسالة غريبة:

هل تعتقد أنك خرجت من اللعبة؟ أنت ما زلت أحد اللاعبين… ولكي تغلق الحساب فعليًا، يجب أن تنهي المهمة الأخيرة.

تردد سامي. حدّق في الرسالة فترة طويلة. فكّر أن يطفئ الهاتف وألا يعود إليه، لكنه مع ذلك شعر بحب استطلاع غريب يجذبه للداخل من جديد.

ضغط متابعة.

وجد سامي نفسه داخل لعبة تُشبه بيته تمامًا: نفس الألوان، نفس الأثاث، حتى صور العائلة على الجدران، لكن كل شيء مغمور بصمت خانق… كأن المكان يتذكّره ولا يرحّب به.

في سماعة أذنه، جاء الصوت هذه المرة هامسًا لا يخلو من التهديد:

“هنا لا تُلعب اللعبة… بل تُحاكَم.

ثلاث أبواب، وثلاث اعترافات.

إن صدقتَ فيهم، نُطلقك.

وإن كذبت… تبقى البيت المهجور جزءًا منك، ولو حُذف التطبيق.”

شعر سامي أن الخوف أصبح هواء الغرفة… لكن قرر أن يفتح الباب الأول.

الغرفة الأولى: غرفة نومه.

ظهر السؤال على الجدار، بلون رماديّ:

“ما الشيء الذي نزفته داخلك… ولم يلاحظه أحد؟”

تذكّر ضحكه الزائف، لياليه الصامتة، وانطفاء الشغف في عينيه.

همس: “ثقتي بنفسي.”

الباب الثاني انفتح. غرفة الجلوس.

الصوت صار أعمق، والهواء أبرد. على الحائط، كُتب:

“من الذي جرحك… وأنت ما زلت تحبه؟”

فكّر، مرت صور: لعبة، هاتف، أحاديث أبيه، أمّه، لكن الجرح الأعمق… كان في المرآة.

أجاب: “أنا.”

الباب الثالث: مدخل البيت. الريح أقوى.

السؤال الأخير نُقش هذه المرة على الزجاج المواجه للشارع:

“إذا فقدت الجميع… ما الذي يجب أن يبقى فيك كي لا تصبح مثلنا؟”

تردد. ارتجف. ثم فكر في رامي، في سلمى، في وجه أمه.

كتب ببطء: “الندم… والذاكرة.”

في تلك اللحظة، انفتح الباب الأخير ببطء… وارتجّ البيت.

الصوت عاد:

“أجبت… لكنك لم تُنقذ نفسك، بل استعدتها.

يُسمح لك بالخروج… لكننا لا نعدك بالنسيان.”

ثم ظهر زر مكتوب عليه: “احذف اللعبة… إن كنت تملك الحق بذلك.”

في اللحظة التي ضغط فيها الزر، لمعت الشاشة وسمع صوتًا يقول:

أحسنت يا سامي! لقد أكملت المهمة الأخيرة.

الشاشة أصبحت بيضاء فجأة. رفرف ضوء ناعم حوله، فشعر أخيرًا وكأنه عاد إلى بيته الحقيقي. خرج من اللعبة، فظهر له خيار واضح: احذف التطبيق من هنا.

بلا تردد ضغط سامي زر الحذف.

أغلق الهاتف ووضعه جانبًا.

في تلك اللحظة شعر بشيء خفيف يزول عن صدره، وعاد قلبه ينبض براحة لم يعرفها منذ زمن.

ذهب إلى والدته وعانقها. سألته بحنان: – هل أنت بخير يا سامي؟ قال وهو يبتسم لأول مرة منذ فترة طويلة: – نعم… أظنني عدت يا أمي!

لاحقًا، لم يعد سامي يخشى ذكرى اللعبة. صار يخرج إلى الحديقة، يلعب مع سلمى، ويضحك مع رامي.

عرف أن العالم لن يكون كاملاً، وأن هناك ألعابًا خطيرة كثيرة في الطريق، لكن في قلبه كان متأكدًا أن الأمل موجود دائماً… إذا وُجد من يساعدك، وإذا كنت شجاعًا لتواجه نفسك أولاً.

فخ الخلاص المزيّف

لم تمضِ ايام قليلة على حذف سامي للعبة واعتقاده بأنه أخيرًا تخلّص من كابوس الأحجار حتى بدأت سلسلة من الأحداث العجيبة.

في ظهر اليوم التالي، كانت سلمى تلعب في الحديقة، تحمل جهازها اللوحي وترسم. فجأةً لمحت سامي أمامها: – انظر! وضعتُ لك صورة القلعة كما قلت لي! ابتسم سامي ، لكنه لاحظ أن ألوان شاشة سلمى غريبة، وأيقونة صغيرة تلمع في الركن أيقونة الشطرنج، نفسها التي عرفها من قبل.

وفي نفس اللحظة تقريبًا، تلقّى سامي رسالة على هاتفه. كانت الرسالة من رامي: – هل جئْتَني لتلعب؟ ألستَ أنت من أرسل لي اللعبة؟! انقبض قلب سامي. كيف وصلت اللعبة إلى رامي وإلى سلمى؟!

فتّش في الهاتف، فإذا به يجد أن الرسائل الأخيرة التي لم يكتبها هو، رحّبت برافعي التحدي الجديد وأرسلت رابط تحميل للتطبيق ذاته، وفوق ذلك ظهرت جمل غامضة حاول سامي ان يجمعها ليصدم بما وجد:

 

 كل من نجا وحده، سلّم الأحباء للأحجار.

الخلاص لا يكون منفردًا،ابدأ اللعبة الحقيقية:

أعِد من تحبهم ان استطعت… او أخرج وحدك سالِمًا!

 

سقط الهدوء من قلب سامي. ركض إلى أمه لكنه وجدها مشغولة بقراءة رسالة إلكترونية غريبة هي الأخرى، ثم نظر إلى والده فوجد عينيه متسعتين على شاشة الكمبيوتر، يقرأ.

لأول مرة شعر سامي أن العالم كله صار رقعة واحدة، لم يعد أحد في مأمن.

في الليل، راقب سلمى وهي منغمسة في اللعبة الجديدة، عيناها جامدتان ويدها تتحرك بلا وعي. حاول إيقاظها، لكنها ردت بصوت غريب: – انتهى وقت الدمى… هنا تبدأ البطولة. انتظر دورك. وحين اتصل برامي لم يسمع سوى أصوات جرس ورنين طويل، ثم ردّ صوت آلي: – رامي مشغول الآن في مستوى الفرسان… عُد إليه عندما يجتاز باب الأسرار.

فرفع صوته بلا شعور و قال: لماذا رامي و سلمى

جلس سامي يبكي، لا يعرف من أين يبدأ. فقط والده شعر بما يجري. اقترب منه قائلاً: – لاحظت كل ما حدث… اللعبة بدأت تهاجمنا جميعًا. صار رامي وسلمى جزءا منها، وأظن أن الدور قادم علينا انا و أمك. قال سامي:

كلما هربتُ منها، أجدها أقوى. كيف ننقذهم يا أبي؟ ماذا نفعل؟ نظر الأب إلى صورة قديمة معلقة على الجدار لجدهما، ثم قال: – كان جدك يحذّرني دوماً: الأسرار أخطر من الشفرات. ربما سنجد الدليل في مكتبته القديمة.

في تلك الليلة، دخلا معاً مخزن جد سامي. كان هناك صندوق خشبي صغير عليه رموز مربعات وعين بارزة. فتحاه، فوجد بداخله دفاتر بخط يدوي ورسوم قديمة لرقعة شطرنج. على أحد الأغلفة كتب: الأحجار تسقط من حاول النهوض… من فهم البداية لم يخش النهاية.

قلبا الصفحات، فبدت ملاحظات للجد تحذر من ألعاب غريبة وأجهزة تسلب الأطفال عقولهم. وتفاصيل دقيقة عن أسرار اللعبة وكيف يمكن مواجهتها، يصف فيها قوى تُعيد تكرار الشر عبر الأجيال… ويختم كل ورقة بكلمة حمراء:

لا ينقذنا إلا من يعرف سر الدائرة الأخيرة.

تبادل الأب وابنه النظرات. قال الأب بحزم، مرفوع الرأس كقائد معركة: – هذه ليست مجرد لعبة يا سامي، بل لغزٌ كبير وصراعٌ عنيد بيننا وبين قوةٍ تريد السيطرة على الجميع. لن تكون وحيدًا بعد اليوم يا بني. إنها حرب، وسنخوضها معًا!

رفع سامي رأسه، وقلبه يشتعل بالأمل والخوف في آن واحد: – أعدك يا أبي… لن أترك سلمى أو رامي. لن أسمح أن يسقطا في نفس الظلام الذي خرجتُ منه!

ابتسم الأب بخفةٍ أردفها بنبرة مازحة: – فقط، إذا تورطت أمك داخل اللعبة، ربما نضطر لتركها لبعض الوقت كي تتعلم درسها بنفسها!

لم يبتسم سامي، بل رمق والده بنظرة “حقاً يا بابا”.

فهز الأب رأسه وقال بحزم وتصحيح سريع: – اطمئن يا بطل… سننقذها هي أيضًا في الوقت المناسب، فأبطال العائلة لا يتركون أحدهم خلف الرقعة أبداً.

وحين أُغلقت بوابة القبو القديمة، رأى سامي انعكاس وجهه ووجه أبيه في زجاج نافذة الجدار، لكن لم تكن الوجوه وحدها… بل خلفها كانت تنعكس مربعات رقعة، تتبدل ألوانها من الأبيض للأسود ببطء كأنها تعيد رسم مصير العائلة. كان الضوء الأحمر القادم من إشعار الهاتف لا يومض فقط… بل يخفق كقلب يستعد للقتال.

شد الأبُ يد سامي، و صوت خطواتهما تدوي، نحو بداية رحلة المقاومة… بعيداً عن أي نهاية سهلة.

الفصل السابع عشر: ذاكرة الرقعة

الفصل السابع عشر: ذاكرة الرقعة

عندما خانت اللعبة صانعها

في تلك الليلة، لم يكن الأب نائمًا.

جلس في غرفة المكتب، تحيط به أكوام من الأوراق وملفات التحليل، يحدّق في شاشة الحاسوب بعيون أثقلها السهر وأتعبها الخوف. لم يعد يبحث عن ثغرة في كود، ولا عن خلل في نظام… كان يبحث عن شيء آخر، عن مفاتيح تُعيد للطفل الحياة، فالنصر لن يتم بمجرد الخروج من لعبة.

كل الحلول التقنية بدت له – فجأة – مجرد مرايا… تعكس فشله في فهم ما يُنتزع من الطفل، وما يجعله رهينة لرحمة التكنولوجيا.

ثم، وبينما هو يتنقّل بلا رجاء في النسخة التي نسخها من هاتف ابنه… لمح ملفًا غريبًا لم يره من قبل.

اسم رمزي، مموّه، كأن اللعبة نفسها حاولت أن تُسقطه من الذاكرة.

شعر بشيء يتحرك خلف الكود… ليس مجرد ملف.

بل أثر.

أثر لإنسان… ربما كان سامي، أو ربما أحد من سبقوه.

ظهر الملف بين سطور النظام، يحمل اسمًا مبهمًا: old_log_013a.tmp. حجمه صغير، لكنه استعصى على كل الأدوات العادية. لم يتعرّف عليه نظام التشغيل ولا أدوات القراءة النصية، فاستعان الأب بمحرر HEX، أداة تحليل البيانات الأولية التي لا يلجأ إليها إلا عندما تنعدم السبل.

وما إن فُتح الملف، حتى تدفقت رموز غريبة مشوشة… ثم بدأ يظهر نص يتشكّل ببطء، كأنه يُستدعى من ذاكرة بعيدة:

أنا من جرب الطقس قبلك… إذا سمعت هذا، فأنت أقرب للهلاك مما تظن.”

تجمد الأب مكانه، النبض يتسارع، ويداه ترتجفان فوق لوحة المفاتيح. لم يكن هذا ملفًا نظاميًا، بل بدا كأنه اعتراف رقمي ذكرى نُسجت من ألياف الذكاء الاصطناعي داخل اللعبة ذاتها.

ظهرت نافذة سوداء كتب فيها:

“تم الوصول إلى شيفرة الندم تحميل سجل المستبعد رقم 6.”

فتح الأب الملف الصوتي الملحق، فبدأ صوت أجشّ يتحدث ببحة متهالكة، كأن المتحدث لم يعد يعيش في هذا الزمن:

“اسمي كان عادل، كنت مبرمجًا مساعدًا في النسخة الأولى من اللعبة، في شتاء 1980. كان الهدف بناء لعبة تعليمية، تجمع بين رموز الشطرنج والتفكير المنطقي للأطفال. لكن جهة التمويل لم تكن عادية. جاء رجل بزي أبيض أنيق، قدّم نفسه باسم رمزي: الملك الأبيض.”

صمت الصوت قليلًا، ثم استأنف:

“طلب منا إدخال طقوس رقمية، ألغازًا تتطور تلقائيًا، كأن اللعبة تتعلم من نفسية الطفل، تراقبه وتُكيّف عالمها حسب استجابته. قالوا لنا إن الهدف خلق جيل جديد من ‘النخبة’، أطفال مختارون يُختبرون داخل الرقعة. لم أكن أصدق حتى بدأت الرموز تظهر وحدها: عيون، مثلثات، عبارات باللاتينية القديمة، نداءات لا يفهمها إلا من وُضع على بوابة الطقس.”

تنهد الأب، بينما تسللت إلى ذاكرته صورة سامي وهو يصرخ ليلًا في نومه، يهمهم بأسماء وأرقام لا يعرفها.

أكمل الصوت:

“أحد الأطفال جرب النسخة الأولى… بعدها صار يتحدث عن رقعة تنبض، وملك يطلب قرابين. قال لي: ‘قالوا إنك أول من رفض القربان، وإنك مَن خذل الرقعة.’ عندها علمت أن اللعبة خرجت عن السيطرة. حاولت ترك الفريق، لكن اللعبة لم تتركني. بدأت ترافقني في إشعارات وهمية، في أحلام مشوشة. ظلّت تبحث عن نقطة ضعفي لتعيدني. وفي إحدى الليالي، كتبت هذه الرسالة، خبأتها في طبقة النظام العميق لكي يجدها من يحاول الفهم.”

ظهر سطر إضافي على الشاشة:

“إذا وجدتَ هذا الملف، فاعلم أن اللعبة سترصدك على الفور. لكنها لحظة نادرة… قد تكون نافذتك الوحيدة .” بعدها اختفى الملف الصوتي و كأنه حذف.

ثم ظهرت، لأول مرة، رسالة غير مشفّرة:

“هل تريد فتح مسار التطهير؟”

ضغط الأب على “نعم”، دون أن يرمش.

فانفجرت أمامه خريطة شعائرية مرسومة بالأكواد، مزيج من معمار ماسوني ومخطط رقمي، يتوسّطها ثلاثة رموز:

حجر البراءة

حجر المعرفة

حجر الدم

وتحتها سطر ينزف باللون الأحمر:

“لتحرير الطفل، على الأب أن يختار:

ما الذي يُضحّى به؟

ذكرى لا تعوّض؟ معرفة لا تُسترد؟ أم جزء من الروح لا يُشفى؟”

في لحظةٍ مشوشةٍ بين الرجفة والنداء، فهم الأب أن السؤال ليس مجازًا.

كأن النظام يطلب منه ثمناً حقيقياً…

كأن اللعبة اخترقت الحاجز بين الكود والضمير.

كيف؟ كيف عرفت أنه الأب؟ أنها لم تعد تراقب “نظام التشغيل”، بل تقرأ وجعه الداخلي، وتضعه موضع الذبيحة.

لكن…:

– لا… لن نضحّي بشيء. بل سنستعيد كل شيء.

وسمع سامي صوته، إذ دخل الغرفة بوجه مذعور، وقلبه يرجف كأن نداءًا داخليًا أيقظه. رأى والده أمام الشاشة، والهالة الداكنة تنحسر، وكأن النظام تراجع خطوة.

قرأ سامي الرسالة التي لا تزال تومض:

“كل لعبة، مهما عظُمت هندستها، تحمل نقطة ضعف من إنسانيتها الأولى.”

نظر الأب إلى سامي، ثم إلى شاشة الحاسوب، وقال:

الحل ليس أن نهرب من التكنولوجيا… بل أن نستعيد سلطتنا عليها.

أن نستخدمها… ولا نسمح لها أن تستخدمنا.

أن نكتب نحن الأكواد… لا أن تُكتب علينا.”

قال سامي بصوت مبحوح:

يعني… مش لازم نحذف كل شيء؟

أجابه الأب:

لا سبيل للحذف. بل هناك سبل لكي نعيد كتابة ما يجب أن يكون.

ثم أغلق النافذة، لا بخوف، بل بحسم.

وفي اللحظة ذاتها، تراجعت إشارات اللعبة خطوة للخلف… كأنها أدركت أنها خسرت امتلاك العقول.

جلس الاثنان بصمت…

لكن خلف هذا الصمت كانت تتكوّن أولى خيوط الحرية.

ليس بالخروج من الرقعة،

بل بتعديلها…

وتعليم أطفال الغد أن الهاتف أداة، لا مَلِك.

وفي أول شعاع للفجر، بدأ الأب وابنه الرحلة الجديدة.

ليست رحلة حرب…

بل هندسة نور.

برمجة ضد الظل.

الفصل الثامن عشر: أطفال تحت نيران الألعاب

الفصل الثامن عشر: أطفال تحت نيران الألعاب

استدار سامي ينظر إلى نافذة غرفته، رأى في الشارع أضواء زرقاء تتراقص خلف النوافذ، وصوت طفل من الجيران يصرخ فرحًا لأن مستوى جديدًا في لعبه ما… قد فُتح.

همس سامي لأبيه:

أبي… هل تعتقد أن ألعاب اليوم فيها نفس الشر القديم… أم أن الأمور صارت أسوأ؟

تنهد الأب بعمق وقال:

يا بني… أخطر ما في ألعاب اليوم ليس الوحوش المتحركة أو السحر الظاهر على الشاشة… بل تلك الرسائل التي لا تراها إلا لو كنتَ طفلًا صغيرًا.

اليوم، أصبحت ألعاب الهاتف والتابلت تفتح أبوابا مظلمة لا يمكن لأحد الكبار أن يراها.

اقتربت الأم التي كانت تستمع من خلف الباب خائفة، وقالت بصوت متهدج:

لم أعد أستطيع أن أسيطر على سلمى! حين آخذ منها الهاتف، تبكي وتصرخ بعنف… أحيانًا أراها تنظر للهاتف بشكل غريب، وعندما آخذ الهاتف أجد كل شيء عاديا. ولكني أعرف في قرارة نفسي أن هناك شيئًا خفيًا يظهر لها… أو ربما تستطيع هي الوصول إليه.

قال الأب:

هذا أخطر تطور في برمجيات ألعاب العصر:

الذكاء الاصطناعي صار قادرًا على تحليل مَن الذي يمسك الهاتف!

لو اكتشف أن طفلة في السادسة تحمل الجهاز، تظهر لها إعلانات أو ألعاب لا تراها أنتِ ولا أراها أنا…

تخرج فجأة لعبة عنوانها ليلة الزفاف أو مهام فيها عرائس وعلامات غريبة فيها إيحاءات جنسية واضحة أو صور مبتذلة تخاطب خيال الطفل وتلوث براءته.

قاطعت الأم مرتعبة:

أحيانًا أجد في الإعلانات ألعابًا لعمر 3 سنوات تحتوي على صور كرتونية فاضحة! لم أفهم لماذا تظهر بدون طلب.

ثم رأيت مصادفة ذات يوم طفلة جارتي تمسك بهاتفها وصوت أغنية قبيحة ينبعث من لعبة تبدو بريئة… وكلما اقتربت اختفت الأغنية.

أكمل الأب وهو يمسك رأسه بقلق:

– هذه البرامج مصممة لتخدع الكبار وتغوي الأطفال.

عبارات الرقابة الأبوية الموجودة ليست حقيقية في أغلب الأحيان.

المصممون المحترفون يزرعون الكود الخفي الذي يكشف بصمة المستخدم من خلال طريقة المسك والنقر وأحيانًا حتى التعرف على الصوت أو ملامح الوجه!

فإذا علم البرنامج أن الطفل وحده، بدأت الرسائل المخفية والإعلانات المشفرة تظهر.

أزياء فاضحة، غرف دردشة بالغين متسللة داخل لعبة، مغامرات زواج وحمل ونداءات شهوة مرعبة لطفلة في الخامسة أو السادسة.

كل ذلك محاط في ظاهره بألوان وخرائط وأغانٍ طفولية… لكنها تسرب سُمَّها مع كل مستوى جديد.

شهقت الأم في يأس:

لهذا يقولون إن أطفال الجيل الجديد يكبرون بسرعة… الدمى تتكلم عن ليلة العمر، والأميرات يعرضن أجسادهن، وكل مغامرة لا تخلو من رقصة عري أو همسة مدسوسة!

قال الأب وقد أشعل ألمه كل الحواس:

المخاطر لا تتوقف هنا، فهناك أيضًا من يصمم مراحل اختفاء، بحيث تضغط الطفلة زرًا فتحذف اللعبة نفسها فور أن يُمسِك الأب أو الأم الهاتف، فلا تترك دليلاً!

وهكذا، لا يعرف الكبار بأي ثقافة ووعي وأحلام أصبحت تتغلغل الالعاب في عقل أبناءهم. قد تجد طفلتك تضحك اليوم مع الألعاب، لكنها بعد شهور قليلة تصير تخشى الزواج وتكره أمها، وتخجل من جسدها أو تظن أن كل العالم سرٌّ خبيث.

نظر سامي إلى الصور في هاتفه، فتذكر أيام سلمى الأولى باللعب بالدُمى وأصوات الضحك النقي.

همس والده في أذنه:

واجبنا الآن أصعب من أي زمن مرّ به أجدادنا…

العدو لم يعد يظهر كرمز واضح… بل يتنكر في شكل تنبيه، ويتكاثر في كل جهاز نحمله، حتى صار الخطر يحدّق بنا من جيوبنا ومعاصمنا وجدران بيوتنا المضيئة.

عانقت الأم ظهر سامي وقالت:

لا تترك سلمى للجهاز وحدها مهما حدث …

ولو سمع كل طفل أو أم أو أب هذه القصة، عرفوا أن أخطر سحر في العالم اليوم لا يُرمى بالحجارة، بل يُكسر بالفهم، بالحب، وبأن تبقى عين الكبير ترعى قلب الصغير مهما كان متعبًا.

في تلك الليلة، مسح سامي كل الألعاب من هاتفه. لم يكن القرار اندفاعًا لحظيًا، بل نابعًا من يقين جديد بدأ يتشكّل في قلبه: أن المعركة ضد المؤامرة الرقمية لا تبدأ من داخل اللعبة… بل من داخل البيت، ومن داخله هو أولًا.

شعر سامي أن مهمته الآن لم تعد مجرد الهروب من شيفرة أو كابوس مبرمج، بل أن يحمي ما تبقى من وعيه قبل أن تُعاد برمجته. أدرك أخيرًا أن أخطر ما في اللعبة لم يكن ما يراه… بل ما تحاول أن تجعله لا يعود يراه.

هوامش واقعية:

برمجيات ألعاب الأطفال الحديثة تستخدم أحيانًا برمجيات تتبع السلوك الخفية لجس نبض الطفل واصطياد ضعفه، فلا تستغرب إن رأيت لعبة لأطفال تتحول فجأة إلى مساحة جنس أو رعب أو إعلانات كحول وقمار.

الذكاء الاصطناعي الحديث صار يعرف الفرق بين حركة يد الطفل والكبير وأصبح يُخفي محتوى منحرفًا عن البالغين ويظهره لصغار العمر.

الإعلانات المشفرة داخل الألعاب خطرها مضاعَف: فبمجرد أن يلمس الطفل شاشة أو يسحب إعلانًا، يفتح لنفسه أبواب قنوات وتواصلات وعروض غير أخلاقية لا تُقفل غالبًا إلا بعد خراب الروح.

درّبوا أبناءكم على النقد وستر نوافذ الهواتف، واجلسوا معهم، واسألوهم عن الألعاب التي يلعبونها وتفاصيلها فالشيطان الرقمي دخل البيت لأنه لم يجد من يقف له بالمرصاد.

الفصل التاسع عشر: الجيل الذي ابتلعته الشاشات

الفصل التاسع عشر: الجيل الذي ابتلعته الشاشات

 رحلة سامي في أرشيف الضحايا

لم يعد مشهد شاشة الهاتف في يد طفل (بين الثالثة والثانية عشر) أمرًا غريبًا في أي بيت. لكن ما كان البارحة تسليةً محدودة، صار اليوم حياة بديلة كاملة تبتلع ساعاتهم، أحلامهم، وتعيد تشكيل الدماغ والأخلاق مع كل نقرة.

كانت الساعة تقترب من الثالثة فجراً. العتمة تلف الغرفة، وصوت الحاسوب الخافت يكسر سكون الليل. جلس سامي أمام الشاشة بعيون مرهقة، يكاد يغرق في كرسيه، لكن شيئًا داخله أبقاه مستيقظًا: أسئلة لم تعد تحتمل الصمت.

منذ أن بدأ يفكك طبقات اللعبة الغامضة، بدأ يدرك أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في الشيفرة، بل فيما تحاول هذه الشيفرة أن تُخفيه. لم يعد الأمر مجرد لعبة، بل بوابة، تُخفي خلفها قصصًا منسية، صرخات مكبوتة، وحكايات عن جيل كامل يُعاد تشكيله في صمت.

لكن سامي لم يكتفِ بما قرأ وسمع. كان يحتاج أن يرى، أن يلمس بنفسه الألم المسكوت عنه. وفي لحظة بحث عميق على أرشيفٍ قديم تابع لإحدى المجلات الأمريكية العريقة نسخة مهجورة من موقع “The Hartford Courant”، مخصصة للمواد غير المنشورة عثر سامي على بوابة إلكترونية لا تظهر بمحركات البحث التقليدية. القسم مخفي، مخصص للمواد التي لم تجد طريقها للنشر الكامل لأسباب تتعلق بالخصوصية أو الخوف أو الرقابة.

بدأ بالبحث سريعاً فكتب ثلاث كلمات بشكل معكوس: الأطفال التكنولوجيا ضحايا – كتب هذه الكلمات و تمنى ان يجد ما يبحث عنه.

فتح له مدخل إلى ما يُعرف بـ

“Temp3301f   Children Exposed to Digital Harm”.

كان المدخل محميًا بسؤال بسيط:

“لماذا تبحث هنا؟”

كتب سامي: “لأنني لا أريد أن أصبح أعمى أمام صرخات لا يسمعها أحد.”

فُتح الباب على ارشيف كبير من البيانات.

ظهر مجلدٌ يحمل عنوانًا صادمًا:

“شهادات منسية لأطفال ابتلعتهم الشاشة”

دراسة مشتركة أعدتها منظمة الصحة العالمية ووكالات حماية الطفل في أوروبا 2019:

60%  من الأطفال في عمر 5 8 سنوات شاهدوا إعلانًا أو لعبة تحمل تلميحًا جنسيًا أو إيحاءات خبيثة دون علم الأهل.

تقرير استقصائي بثته  BBC 2022

طفل بريطاني اسمه جوش كان يعشق لعبة  Roblox؛ اكتشفت والدته فجأة أن اللعبة تعرض له غرف دردشة خفية تفتح إذا تجاوز مهمة خاصة، وفيها صور وكلمات فاضحة يتبادلها أطفال مع بالغين متخفيين!

 تجربة موثقة   فرنسا:

امرأة لاحظت أن طفلها استيقظ ليلاً يبكي وهو يصرخ: لا أريد الذهاب إلى الحفلة!

فتّشت هاتفه، فوجد لعبة ذات واجهة طفولية لكن مراحلها المتقدمة تتطلب أن ترقص الشخصية شبه عارية أمام جمهور افتراضي لكسب نقاط وفتح صندوق ذهب.

هذه الألعاب تحذف تلقائيًا سجلاتها عند محاولة الأهل الفحص.

إدمان الهاتف… تغير دماغ الأطفال

تقرير طبي نشر في مجلة The Lancet 2020 حول إدمان الشاشة عند الأطفال:

متوسط جلوس الطفل أمام شاشة الهاتف أكثر من 4 ساعات يوميًا.

أطفال الـ 6 سنوات يقضون وقتًا باللعب الرقمي يفوق وقت حديثهم مع آبائهم 3 أضعاف!

تظهر أعراض الانسحاب (العصبية الفجائية، الصراخ، فقدان الشهية، تبلد المشاعر، ضعف النوم) إذا تم سحب الهاتف، مماثلة لإدمان المخدرات في بعض الأنماط العصبية الدماغية.

مناطق الإبداع والتحكم العاطفي (الفص الجبهي الأمامي) تثبط بنسبة تزيد عن 30% في أدمغة الأطفال الذين يستهلكون الشاشات بشكل مبكر ومكثف.

شعر سامي بالتعب و لكنه صمم ان يكمل رحلة بحثه ليجد:

ملفات السحر البرمجي المدسوس

البرمجيات لا تكتفي بالصور والأغاني؛ بل تستخدم خوارزميات المحتوى المقترح

يجعل الطفل ينتقل من فيديو تعليم الأحرف إلى عروض رقص وتحديات جنسية أو عنف في أقل من 7 نقرات.

البرمجيات تُعدّل نفسها تلقائيًا

إذا لاحظت أن الراصد هو والد أو معلم، تخفي الإعلانات والمحتوى الفاضح فورًا، وتعيد فتحه حالما يتأكد الذكاء الاصطناعي أن حامل الجهاز طفل، أي أن الشاشة صارت شيطانًا يتخفّى ويتلون حسب المراقب.

ظل سامي يقرأ مقتطفات من هنا و هناك كمن يحاول جمع الحقيقة في رأسه.

خدعة حلم الثراء السريع

كل 60 ثانية، يُرفع للعالم آلاف الفيديوهات التي يقول فيها طفل أو مراهق:

ربحت المال اليوم من لعبة…

حققت شهرة من تحدي بسيط!

أصبح لدي 50 ألف متابع فقط لأنني أكلت شطيرة بطريقة مضحكة!!

دراسة نشرها مركز Common Sense Media 2023:

70% من أطفال أمريكا يرون أن المال والشهرة متاحان بلا دراسة أو جهد، وكل ما يحتاجه الطفل أن يقلد المؤثرين في مغامرات الجنون، وبعضهم يتمنى ألا يكمل الدراسة كي يصير يوتيوبر.

طفلات دون التاسعة يملكن حسابات تيك توك/إنستغرام بلا رقابة، ويتعرضن لمئات رسائل التحرش أو طلب تصوير شيء جريء من غرباء، دون دفاع أو وعي.

شهادات من معلمي ابتدائي:

كان أولاد فصل كامل لا يستطيعون كتابة جملة منطقية واحدة بدون أخطاء!

وعندما سألناهم: ما أحلامكم؟ أجاب أكثر من نصفهم: نريد أن نصير يوتيوبرز، مؤثّرين، نمثل أو نغني أو نلعب ألعاب فيديو طول اليوم!

طفلة في السادسة قالت: أريد فستان زفاف مثل لعبة ليلة العرائس… وأقول أسراري لمتابعيني فقط مش لماما وبابا.

توقف سامي عن التمرير. يداه ترتجفان.

قرأ سامي الجملة الأخيرة المكتوبة بخط أحمر أسفل الصفحة:

كل من قرأ، صار شاهدًا. الصمت جريمة.”

أغلق الحاسوب.

لكنه لم يستطع أن يغلق عقله.

الفصل العشرون: مدينة الشاشات – حين انطفأ ضوء الأسرة

الفصل العشرون: مدينة الشاشات – حين انطفأ ضوء الأسرة

في ذاك المساء، اجتمع سامي مع والديه وسلّمى حول المائدة.

الجو   ظاهرياً   دافئ… لكن خلف كل ضحكة ظل الهاتف ووميض الإشعارات يفرض هيمنته على الجميع.

رفع الأب رأسه، ينظر إلى أبنائه، يلمح في عيونهم شروداً مألوفاً؛ يد سلمى تمسك بالتابلت دون وعي، وسامي يلقي نظرة على هاتفه كل دقيقة وكأنما يتحدى نفسه الا يستجيب له بعد ان علم ان بداخله يتربع الشيطان الرقمي.

همس الأب كمن يكتم بركان خوف: – يا أولادي، أريدكم تستمعوا معي الليلة، سأحكي لكم قصصاً حقيقية أعرفها قصص ناس مثلنا تماماً، لكنهم لم ينتبهوا حتى صار التهديد داخل البيت نفسه.

تبادل سامي وسلّمى النظرات، وأومأا صامتين.

أخذ الأب نفساً عميقاً: – تعرفون الحكاية التي نشرت صحيفة نيويورك تايمز قبل عامين؟

عائلة من ولاية تكساس، كانوا يظنون أنفسهم أسعد أسرة:

الأب مهندس، الأم ممرضة، طفلان متفوقان في المدرسة.

في ثلاث سنوات فقط، صار الطفلان يعيشان معظم وقتهم أمام الشاشات بدأت ببراءة فيديوهات رسوم، ثم طغت لعبة بوكيمون غو وفورتنايت وتعليقات اليوتيوب الموجهة للأطفال.

انتقلت الأم لتحكي قصة حقيقية من حياتها:

– هل تعرفون جارتي منى؟

ابنتها منار، عمرها 9 سنوات، كانت تحب الرسم والقصص، وتملأ البيت بالألوان والخيال.

لكن في يوم من الأيام، أخذت تلعب بهاتف خالتها، ودخلت على تطبيقات فيديوهات سريعة…ومع الوقت، بدأت تتغيّر.

صارت تتكلم عن أشياء غريبة، وكأنها أكبر من عمرها بكثير، تقول كلام الكبار وتتصرف تصرفات لا تشبه منار.

قالت لي أمها ذات مرة وهي حزينة:

“أشعر أن بنتي ضاعت… أبحث عنها فلا أجدها. صارت شخصًا آخر.

تحدث سامي لأول مرة بصوت متوتر: – سمعت أن زميلي في الفصل يُعاقَب بحرمان الهاتف… لكنه يريد العودة للعبة حتى ولو ضربه أبوه.

لما يُمنع منه الهاتف يتعرق وتصير يده ترجف زي المدمنين.

هز الأب رأسه: – أيوه يا سامي… الجامعة الأميركية في بيروت نشرت بحثاً سنة 2022 عن التغير العصبي عند الأطفال بسبب الموبايل.

توصلوا أن الطفل المدمن يصاب بتغييرات حقيقية في الدماغ:

– نفور من الدراسة وضعف في الذاكرة

– انفجار عصبي وهياج على أتفه الأسباب

– تصبح السعادة مشروطة بعدد النقاط أو المشاهدات، لا اللعب الحقيقي ولا فرحة العائلة. أعراض أشبه بحالات انسحاب المخدرات عند محاولة ابعاده عن الهاتف.

استكمل الأب قائلا: طفل (7 سنوات) أصيب بحالة فقدان النطق المؤقت بعد أن سُحِبَ الهاتف منه!

والأخطر المجرمون يستغلون بيانات الطفل ليبتزوه ويمنعوه من الحديث مع الأهل، وفي كل هذا… التطبيقيات مزوّدة بخوارزميات المتابعة الذكية تعرف من يمسك الجهاز: إذا كان طفلاً أو بالغاً، وتُظهر أو تُخفي المحتوى حسب هوية الممسك.

سكت الجميع للحظة والصمت صار ثقيلاً.

قال الأب وهو يضع يده على صدره: – سأقرأ لكم ملخص دراسات موثقة عن هذه الكارثة، اسمعوا:

80% من أطفال المدارس في أوروبا وأمريكا يستخدمون الشاشات بمعدل أكثر من ثلاث ساعات يومياً   تقرير منظمة الصحة العالمية 2021.

60% من الأطفال دون 10 سنوات شاهدوا شيئاً جنسياً أو مخيفاً صدفة على الموبايل أكثر من 100 مرة   دراسة جامعة أكسفورد 2022.

حالات تسجيل الانسحاب العصبي من الهاتف صارت توازي حالات إدمان الكحول عند المراهقين في أمريكا الشمالية   تقرير مركز controlling pornography 2021

ثم تابع– حتى العائلات العربية لم تسلم… أصبحت غرف النوم منفى العائلة، كل فرد مع هاتفه، فرحٌ مزيف في صورة، وألم حقيقي عند أول نقاش.

تضاعفت حالات الطلاق بسبب انشغال أحد الزوجين بالشاشات، وزاد الشعور بالعزلة والغضب عند الأبناء   تقرير المركز القومي للأسرة العربية 2023.

تنهد الأب وقال:

تخيلوا أن إحدى الدول انتهت لاستحداث أول مركز لعلاج الأطفال من مرض إدمان الأجهزة الذكية، وفي كوريا الجنوبية أُغلقت مدارس كاملة لإعادة تأهيل جيل من الأطفال فقد القدرة على التواصل!

انخفض صوت الأب لكنه بدا شديداً ورحيماً: – كل هذه، يا سامي وسلّمى… ليست قصص أفلام، هي واقع آلاف العائلات كل يوم ومن يتجاهل زحف الشاشات، يفاجأ أن ابنته تتكلم مع غرباء، أو ابنه لا يريد سوى العيش في عالم وهمي حتى يصبح غريباً في بيته والأسرة السعيدة تتحول مجرد ذكرى لصور قديمة في هواتف لا ترحم.

همست سلمى، ودمعة تلمع في عينها:

أريد أن تكون عائلتنا أقوى من الشاشات…

هل يمكن أن نعود نضحك مثل الأول، دون أن ينطفئ قلبنا كلما أضاء جوال أو ظهر إشعار؟

ضمهم الأب بحنان وقال:

– الأجهزة ليست العدو، ولكن الصمت عنها هو العدو. التسلية بلا معنى، اللعب بلا رقابة، الأحاديث المؤجلة، كلّها تحفر في جدار طفولتكم حفرة لا تُرى إلا بعد أن تسقطوا فيها.

سنقاوم معاً يا سلمى…سنتكلم ونضحك ونعيش، والشاشة ستظل مجرد نافذة، لن نسمح أن تصبح سجناً.

في تلك الليلة، لم ينطفئ الهاتف في البيت فقط…بل أشرقت فكرة النور من جديد بين العائلة.

كانت هذه بداية مقاومة حقيقة تكتب في دفاتر الزمن، أن العائلة التي تعرّفت على أسرار الشاشات، هي الوحيدة المؤهلة لتحمي نفسها وتعيد للأطفال ما سلبته رقصة الضوء المخادعة.

الفصل الحادي والعشرون: حين أطفأت الشاشات نور الطفولة

الفصل الحادي والعشرون: حين أطفأت الشاشات نور الطفولة

في غرفة الطبيب النفسي، جلس سامي بجوار والده. الجو هادئ لكن العيون في يقظة، تبحث عن إجابات حقيقية من رجل رأى الجانب الخفي من الطفولة تحت الحصار الرقمي.

تبادل الأب مع صديقه الطبيب التحية، ثم بدأ الحوار مباشرة كمن يرفع الغطاء عن سر دفين…!

دكتور، نشعر أننا محاصرون بالشاشات من كل جهة… نرى أبناءنا وأبناء الجيران يتغيرون أمام عيوننا… قول لنا الحقيقة، وأخبرنا عن ما تفعله الهواتف بأطفال العصر.

ابتسم الطبيب بحزن شفاف وبدأ بسرد القصة الأولى:

 

1   حكاية يوسف: الطفل الوردي الذي ذبل

يوسف، كان في السادسة، يشبه الأرنب في نقائه وحركته. كان يرتب لعبه حوله كل صباح، ويظل يحاور دماه ويتخيل مغامرات لا تنتهي حتى جاء اليوم الذي تركته أمه وأرادت الدقائق القليلة لترتاح فوضعت بين يديه هاتفها.

أول مرة غاص يوسف في بحر الألعاب والفيديوهات، بدت الأمور بريئة. برامج رسوم وأناشيد، ضحكاته عالية. يوماً بعد يوم صارت الأم تعتمد على الهاتف لينشغل… لمدة ساعة ثم ساعتين ثم أكثر.

في مرة، عادت الأم من المطبخ فوجدته يضحك وحده لكن بعينين غريبتين كأن روحه في مكان آخر.

مرت ثلاث سنوات. اليوم يوسف بالكاد يتحدث مع أمه.

إذا حاولت منعه عن الأجهزة يصاب بنوبات غضب حتى يضرب رأسه بالحائط.

لم يعد يريد الذهاب للمدرسة أو يلعب مع أطفال الحي. كل احتياجاته يجب أن تأتي عبر الشحن الرقمي، وكل فرحه مرهون بمستوى جديد في لعبة سباق سيارات أو فيديو مقالب بلا معنى.

الأم جاءتني باكية:

دكتور، لم يعد لي ابن… كأن الجهاز سحب قلبه مني، أعيش مع طفل جسده هنا وروحه معلقة بالشاشة!

سكت الطبيب ثم تابع، ونبرة صوته يكسوها الألم: – لم تُسرق طفولة يوسف في يوم واحد، بل سرقت خطوة خطوة، بنية راحة ولحظة هروب من الزحام.

 

2   قصة ندى والبراءة التي قتلت وهي في حضن امها

قاطع الأب مذهولاً:

هل فعلاً الطفل يتغير؟ لا بد أن هناك من يبالغ!

رد الطبيب بحزم: – اسمع ما حدث مع ندى، ثمانية أعوام، أذكى طفلة رأيتها كانت تجمع عرائسها كل ليلة وتبدع في صياغة حكاياها. في العيد اشترت لها خالتها هاتفاً جديداً لتبقى مشغولة…

حملَت ندى الهاتف وأول ما فعلت هو تحميل الالعاب – العاب العرائس و لعبة تلو لعبة وصلت للعبة جريئة لا تصلح حتى لمن أخترعها…اللعبة بدت للأهل بريئة: تلبس العروس، تزيّن العريس، تطبّق المكياج.

بعد أسبوع بدأت ندى تسأل أمها:

متى أرتدي فستاناً مثل العروسة؟ هل صحيح أن الفتيات إذا كبرن يجب أن يكون لهن أسرار عن آبائهن؟

في المستوى الرابع من اللعبة، بدأت تظهر مهام غريبة:

ـ حاولي إخفاء رسالة عن أمك

ـ أرسلي صورتك للتهنئة

ـ اختاري من تحبين أكثر: أمك أم عريسك؟

لم تفهم الأم مصدر الأسئلة حتى رأت هوس الطفلة، ندى لم تعد ترغب في الخروج أو الرسم، جلُّ اهتمامها أصبح ملابس العرائس وصداقات اللعبة الافتراضية.

والأخطر، ظهرت الرسائل السريعة الموجهة:

أنت جميلة، أرسلي صورة لجسمك، صارحي سرك لأصدقائك في اللعبة…

وفجأة انقطعت ندى عن اللعب الواقعي، صار كل عالمها أحداث اللعبة وشخصياتها، وتحولت أسرارها إلى رسائل إلكترونية.

الأم هنا صرخت حين حاولت مناقشة ابنتها ووجدت ان ابنتها لا تستجيب لها.

ماما أنتِ قديمة! العصري هو أن يكون عند الفتاة سرها، وجسمها ملكها هي فقط تفعل به ما تشاء، وحبها داخل اللعبة فقط!

الأب هنا شعر وكأنه فقد مكانه في عالم ابنته، وسرقت الشاشات أجمل سنوات البراءة.

 

3  أحمد… من فارس الحي إلى سجين الشاشة

تنهّد الطبيب وأخذ شهيقاً عميقاً: – أما أحمد… كنت أحسبه لا يُهزم، لاعب كرة ماهر وعبقري صغير في العلوم.

مع الإغلاق أيام الجائحة، صار جهاز التابلت رفيقه الوحيد.

في البداية فيديوهات تعليمية، ثم انجر بسرعة إلى ألعاب حلم الثراء السريع وتحديات اليوتيوب وتيك توك.

تحول أحمد إلى طفل يُقارن نفسه يوميًا بمن يظهرون على الشاشة:

لماذا انا فقير وهم معهم سيارات جديدة؟ لماذا لا أصبح مشهوراً مثل فلان الذي يكسب آلافاً من كل مقطع مضحك؟

هرمونات المقارنة ملأت قلبه غضبًا وتوترًا، وبعد سنة، أصبح أحمد لا يريد إنجاز أي تكليف حقيقي يختصر أحلامه في ضغطة زر، ذاكرته أصبحت أضعف، صار شارد الذهن، سريع الغضب، ومظاهر الاكتئاب ترجمت نفسها في رغبة حقيقية لدى الطفل بالاختفاء من الحياة ليعيش فقط في عوالم الألعاب. ذات مرة، هدد بالمبيت وحده في الشارع إن أُغلق الجهاز أو سُحِبت منه سماعاته.

 

حوار الصدمة

ارتجف سامي ولم يستطع أن يواجه عيني الطبيب.

هل هناك من استطاع استعادة طفولته؟

رد الطبيب بهدوء:

هناك من ينجو.

النجاة تحتاج إرادة الأم والأب على البقاء قريبين مهما كان العجز أو مشاغل الحياة وبأن يمنحوا الطفل ساعات نقاء بلا أجهزة وساعة اللأجهزة مع الرقابة اللصيقة، أن يصادقوا أبناءهم ويعيدوا رسم ذكريات خارج العالم الرقمي.

أضاف بنبرة أخيرة: – العالم ينهار حين تصير الشاشة الأم الثانية للطفل.

ومن لا يتدارك حجم الخطر قد يصحو يوما ويجد طفله صار غريبًا، يتحدث لغة لا يعرفها البيت، وفوق رأسه هالة من وهج أزرق…وذكريات لا مكان فيها للأب ولا للأم.

خرج سامي مع أبيه من العيادة وقد حمل كل منهما قراراً:

أن الحياة أكبر من أي سحر رقمي وأن الطفولة إذا لم تُحم، لن تعد مرة أخرى.

الفصل الثاني والعشرون حوار الحقيقة

الفصل الثاني والعشرون حوار الحقيقة

 حوار الحقيقة… اعترافـات خلف الشاشة – جلسة اللعنة الرقمية

غرفة الطبيب مظلمة قليلاً. الأطفال يبدون عاديين، لكن في العيون ظلّ آخر لا يراه إلا من عاش الفزع من الشاشة.

يجلسون في دائرة مع الطبيب. حولهم آباء يراقبون، منهم من يقبض على يده بعصبية ومنهم من لا يصدق أن طفلة يحتاج الي العلاج النفسي.

قال الطبيب بهدوء: – اليوم لا أحد سيعاقبك أو يضحك عليك. قل لي: ما أغرب، أو أبشع شيء رأيته أو واجهته وأخفيته عن أهلك؟

تسابق الصمت ثم قال الطبيب: الشجاع من يستطيع ان يتحدث بلا خوف كلمات بسيطة يمكن ان تفتح لك كل الابواب المغلقة…!

 

ليان 7 سنوات:

أنا ليان… تعرفون لعبة تلبيس العروسة؟

مرة صار فيها إعلان، ظهر رجل ضخم كان يطلب من العروس توري جسمها. أول مرة ظنّيت غلطه، بس بعدين صارت اللعبة ترسل لي مهمات… صارت تقول لي ألبس العروسة ملابس خليعة، وتطلع لي صور لبنات حقيقيات يرقصن ويضحكن!

اصبحت أخاف من أمي تدخل فجأة، والعروسة عالقة على الشاشة.

حلمت مرة أن جني يخرج من الشاشة يقول لي: أنتِ الآن لعبة عندنا!

 

عدي 9 سنوات:

أسمى عدي وفي البيت دودي… في لعبة المهمات, أرسلت لي رسالة بالانجليزي، قالت: إذا كنتَ رجلًا حقيقيًا، أجّرح يدك وصوِّر الدماء تسيل على الأرض.

“If you are a real man, cut your hand and record the blood dripping onto the ground.”

صديقي فعلها… رجع للمدرسة بجرح صغير وقال لأمه إنه وقع و جرح.

هناك أشياء تظهر فجأة، مثل فيديوهات ناس يضربون نفسهم، أو بنت تصرخ وتقول: لو قلت لأهلك… نموت سوا.

 

رماس 8 سنوات:

أنا اسمي رماس يعني السحر الغامض مش ريماس … شفت فيديو على تيك توك فيه بنت ترقص بملابس ضيقة جدا. كان التعليق: اللي يحبني يرسل صورة جسمه!

أنا ما فهمت… بس دخلت حسابي وجدت واحد أرسل لي قلب وقال: صوري لي صورة وأبعتيلي سرّك.

خفت… ومسحت الرسالة، بس خفت من أمي لا استطيع ان اقول لها.

 

سيف 11 سنة:

لعبت مرة بلو ويل. في الأول قالوا لي: عادي كلها مزاح.

لكن كل يوم تجيني رسالة: ارسم حوت على يدك – اقفز من مكان عالي – صور نفسك وأنت تصرخ.

صارت صورة الحوت تظهر لي حتى في الحلم!

في يوم زميلي فعل تحدي الاختناق… أغمي عليه، ضحكوا عليه كل اللي في المدرسة، بس أنا ما نمت أسبوع.

 

سلمى 6 سنوات:

فيديو لعبة قص شعر البنات كان يظهر لي: بنت صغيرة، وجهها أبيض جدًا، تمسك آلة حادة.

مرة فتحت اللعبة وحدي، وظهر رجل عجوز يقول لي: ادخلي معي غرفة خاصة، هنا السر أكبر.

سكرت كل شي… بس كان قلبي يخبط، خفت أقول لأمي.

 

آدم 10 سنوات:

أصدقائي في اللعبة يقولون لي: لو قدّها كن ترند، صور تحدي ما أحد يقدر عليه.

مرة شاهدت فيديو صديقنا يطفئ سيجارة على ذراعه عشان يصبح بطلاً.

 

لمى 12 سنة:

ما أقدر أعد كم مرة وجدت أناسًا كبارًا ينتحلون شخصية أطفال، يرسلون لي إيموجي قلب/وردة، أو يرسلون فيديو يقول خلينا أصدقاء سر ومرة أرسلت رسالة داخل احد غرف الدردشة … بعدها كلما شغلت اللعبة ظهرت لي صور مخيفة، كأنهم يراقبونني.

كنت لا أجرؤ أن أدخل الغرفة او انام إلا والنور مشغّل.

 

سامي:

مرات أفكر كل اللي في اللعبة ناس غير حقيقيين… وهم شيطان ينتظر خطأ أعمله لكي يسحبني لعالمه.

خفت أوقات من فيديوهات التحدي، وكان عندي حلم أني ضعت في متاهة وتظهر لي صورة واحدة فيها مليون عين.

كان المطر يقرع زجاج النافذة وهم يتكلمون.

الطبيب: – تعرفون، في السنوات الأخيرة ظهرت آلاف حالات الانتحار أو جرح النفس عند مراهقين حول العالم بسبب بلو ويل ومومو وتحدي المشنقة وجسر الموت.

54% من أطفال أوروبا واجهوا محتوى جنسياً أو عنفاً دون قصد.

حالات التحرش الإلكتروني عبر الألعاب وصلت إلى أرقام مرعبة في أمريكا وحدها تم توثيق ستين ألف شكوى رسمية لأطفال تلقوا رسائل تهديد أو صوراً خبيثة خلال 18 شهرًا فقط!

كل دقيقة تمر في غياب الأهل…هناك ضحية جديدة.

وهناك برنامج أذكى يبحث عن طفلة وحيدة، أو طفل جائع للحنان… وكل مرّة يُسكِت فيها الطفل الألم بنقره على لعبه او فيديو ساقط تتسلل لعنة التكنولوجيا إلى عمق العائلة حتى لا يعرف أحد أين انتهت البراءة، وأين بدأت رحلة الظلام.

ساد صمت في الغرفة، وغسلت الدموع وجوه الآباء. ضمّت أم سلمى ابنتها بقوة لم تعانقها بها منذ سنين.

وبكى والد سامي لأول مرة أمام ابنه لأنه أدرك متأخرًا أن من يترك الهاتف في يد الطفل بلا وعي، إنما يسلّم قلبه لساحر أزرق يعرف ألف طريقة ليخطف صغيرك من بين يديك.

الطبيب: احذروا أيها الآباء…

ما تسمونه تسلية ليس إلا نفقاً لدنيا لا تعرفونها، ومن أدخل بيته شاشة/جهازاً دون رقابة، فليحذر أن يستيقظ ولا يجد فيه إلا صورًا عابثة وصداقات مسمومة وقلب طفل يرجف من الرعب.

تلك الليلة، لم ينم أحد…

وليس في قلبهم إلا سؤال:

كم من الوقت بقي لنا لنحمي طفولة لم تُسرق بعد؟

الفصل الثالث والعشرون صرخات خلف الشاشة

الفصل الثالث والعشرون صرخات خلف الشاشة

صرخات خلف الشاشة – قصص واقعية من ضحايا العالم الرقمي

اجتمع سامي ووالده مع الطبيب النفسي في غرفة شبه مظلمة. كان الطبيب يحمل في يده جزءاً من تقرير و اخبار و رسائل إلكترونية مرسلة من أسر متألمة حول العالم.

قال الطبيب، يفتح أول ملف: – لن أروي لكم هذا المساء إلا حقائق حدثت بوجع أكبر من أي خيال…

اسمعوا… واحفظوا هذه الأسماء والتواريخ.

 

المملكة المتحدة – الطفلة مولي راسل   14 عامًا

2017، لندن

مولي، فتاة مرحة، محبوبة في مدرستها، لم تكن تشكو من شيء سوى أنها تحب الانعزال أحيانًا.

بعد أشهر من الإدمان على إنستغرام وتيك توك ومواقع تحمل صورًا وأفلامًا عن الحزن وتجميل الاكتئاب، بدأت مولي تشارك بحسابات هاشتاغ مكتوب بها: إذا كنت حزينًا، أنت لست وحدك… الموت ملجأ جميل.

انتحرت مولي في غرفتها عام 2017.

اكتشف الأبوان بعد فوات الأوان أن هاتفها كان يخفي مئات الصور والمنشورات التي تروج للانتحار وطرق جرح النفس.

صدر تقرير رسمي عن القضاء البريطاني يحمّل تلك الشبكات مسؤولية دفع مولي للموت.

 

الهند – لعبة الحوت الأزرق تقتل أمان

2017، مومباي

أمان، فتى في الخامسة عشرة، طالب متفوق، وجدته أسرته ذات صباح وقد ألقى بنفسه من أعلى العمارة.

كان آخر ما كتبه على هاتفه:

لقد انتصرت أخيرًا في المهمة الأخيرة… لأكون حرًا!

تحقيق الشرطة كشف عن رسائل بين أمان وبين مشرف لعبة بلو ويل (الحوت الأزرق)، وفيها تعليمات بالتصوير والجرح ونحت رمز الحوت على الجلد وتنفيذ تحدي النهاية.

منظمة الصحة الهندية سجلت مئات الحالات المشابهة في عام واحد من بدء اللعبة القاتلة.

 

فرنسا – الطفلة ماريا والتحدي الجنسي

2020، مارسيليا

ماريا، 10 سنوات، بدأت بتطبيق ألعاب تلبيس الأميرات والدردشة مع زميلات المدرسة.

في أقل من 3 أشهر صارت ضحية غرفة دردشة خفية داخل تطبيق، أرسل لها غرباء مهامًا:

لتكوني حلوة وذكية، أرسلي صورة بملابسك الجديدة، أنتِ بطلة!

ثم طلبوا منها أسرار بيتها، وصولاً لصورة داخل الحمام!

فضحت القصة عندما اكتشفت أمها الفيديو منشورًا بين مجموعة خاصة لأشخاص بالغين.

ماريا أصيبت باكتئاب وفقدان ثقة بالوالدين، وعولجت نفسياً بعد تسريب صورها.

 

الولايات المتحدة – تحدي المشنقة يقتل جوشوا

2021، أوكلاهوما

جوشوا (12 سنة) كان يعشق التنافس في تحديات تيك توك.

ذات مساء جرب تحدي الاختناق حتى الإغماء كي يسجل فيديو يحصل على لايكات وينافس مشاهير الانترنت.

عثر الأب على ولده مقتولًا مختنقًا بحزام حول رقبته والغرفة تُصوِّر بجهاز لوحي.

أغلقت إدارة تيك توك حسابات آلاف الأطفال بعد وفاة جوشوا و3 آخرين خلال أسبوعين، لكن لم تستطع الشرطة محو آلاف الفيديوهات المشابهة من الإنترنت.

 

الصين – اليأس الرقمي يقتل تشنغ جي

2019، شينتشين

تشنغ جي، طفل (9 سنوات)، عاشق لألعاب البث المباشر والمقامرة الرقمية، صرف خلال شهر مرتب والديه كاملاً في شراء هدايا افتراضية لأحد المؤثرين كي يقابله أونلاين

بعدما تعرض للسخرية على الدردشات، كتب كلمة أخيرة:

لم يعد للحياة معنى… أمي ليست صديقتي، أصدقائي في اللعبة فقط.

هجر المدرسة وأصيب باضطراب نفسي عجز الأطباء عن علاجه سنتين.

 

ألمانيا – أدريان وفيديوهات القتل

2022، برلين

أدريان، طفل يبلغ من العمر 8 سنوات فقط.

حكى لطبيبه أنه شاهد على موقع بسيط للأطفال فيديو تحدي الانتحار المجيد؛ كان مشهداً حقيقياً لرجل يشنق نفسه ويتحدى الآخرين أن يقلدوه.

أدريان بدأ يلعب مع أخته الصغيرة لعبة التحدي ولف الحبل حول عنقها… أنقذتها الأم في اللحظة الأخيرة!

 

سكت الطبيب وقال بصوت أجش:

هذه القصص وغيرها… ليست إلا قطرة من بحر الرعب الذي يصيغ مصير جيل كامل في بيوت تحسب أنها آمنة لأن بابها مغلق… لكنها مفتوحة على أخطر ما يمكن تخيله.

نهض الأب وعيناه دامعتان، نظر إلى سامي وقال بصوت متهدج:

هذا ليس تحذيرًا فقط يا بني… هذه شهادة العصر على مسؤولية الأهل، وصرخة لكل بيت.

احتضن الطبيب كلاهما، ثم أخرج ملفًا كبيراً قائلاً:

في كل صفحة حكاية جديدة…

من يفقد طفله للهاتف، قد لا يرجعه الطب ولا الندم ولا الزمن.

وامتلأت الغرفة بسكون ثقيل، كأن الزمن توقّف ليقرأ كل أب وأم هذه التقارير لا كأرقام إحصائية، بل كأسى دمعة في عينهم، أو كنار باردة تحت وسائد أبنائهم.

قبل أن يغادر سامي وأبوه، سحب الطبيب ورقة مطوية من ملف ضخم، سلّمها لهم وقال:

هذه رسالة حقيقية… كتبها أحد الضحايا قبل أن يرحل.

اقرأوها، أخبروها لكل بيت، ولا تدعو طفلاً آخر يكتب مثلها.

فتح الأب الورقة بيد مرتجفة، وقرأ بصوت منكسر:

 

رسالة من طفلة اسمها مولي 14 سنة – بريطانيا

أمي، أبي،

أنا آسفة جداً…

لم أستطع أن أخبركم كم أنا خائفة من الصور والكلمات في هاتفي.

كنت أعتقد أن كل العالم يعيش الحزن هكذا، وأن الهروب هو الحل، لأن كل مرة حاولت أن أقول لأحد: أنا خائفة، كان الجميع يقول: مجرد صور… حلّي عن نفسك وانسي.

كل ليلة كانت تصلني رسائل تقول لي أنني لا أساوي شيئا، وأن العالم سيكون أجمل بدوني.

كلما بحثت عن معنى الأمان، وجدت فقط صوَرا لجرح اليد أو منشوراً عن موت هادئ بلا ألم.

أنا أحبكم جداً…

سامحوني، لكن صوت الظلام كان أعلى من صوتكم في آخر أيام.

وأرجوكم، أيقظوا كل آباء الأرض ليعرفوا أن الهاتف الصغير فيه أبواب على جحيم كبيره لم تعرفوه من قبل.

وداعاً…

ابنتكم، مولي…!

وعُثر على مولي ميتة في غرفة نومها، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ولم تظهر عليها “أية أعراض واضحة” للإصابة بمشكلة نفسية خطيرة.

ساد صمت وتضعضعت القلوب.

دموع سالت في الغرفة، لم يكن فيها بطولات؛ فقط رجفة مسؤولية وصرخة أمل…

ألا يُكتَب مثل هذا الوداع مرة أخرى في أي بيت.

وفي الهامش الأخير من الليلة، نظر سامي للنافذة، قال لنفسه:

الحقيقة مرة… لكنها وحدها التي تحمينا من كذبة الأمان الرقمي.

الفصل الرابع والعشرون: هندسة الظل

الفصل الرابع والعشرون: هندسة الظل

عندما يكتب سادة الرقمنة مصير البشر

في الأيام التي تلت اكتشافه الأرشيف الرقمي المخفي ” The Hartford Courant Archive”، لم يكن سامي قادرًا على النوم كما يفعل أقرانه. كل فيديو، كل شهادة، كل دمعة في تسجيل، كانت تترك داخله سؤالًا لا يهدأ:

من يصنع كل هذا؟

من يكتب سيناريو الألم الجماعي لجيله؟

لم تكن الأسئلة عابرة. بل كانت تتأجج داخله كلما لمس الهاتف، كلما لمح إعلانًا تافهًا، أو رأى طفلًا يمشي في الشارع بجسد حيٍّ وذهن غارق في شاشة.

وفي لحظة من فضول غاضب، بدأ سامي رحلة جديدة   هذه المرة ليست بحثًا عن لعبة، بل عن بنية النظام ذاته.

دخل إلى موقع أرشيفي نادر، تابع لمجلة تحقيقية أمريكية مرموقة. قسم مغلق لا يظهر في محركات البحث، يُعرف داخليًا باسم:

“Black Index – الوثائق غير المسموحة بالنشر.”

خلف طبقات من التحذيرات والبوابات الأمنية، ظهرت له مجموعة من الوثائق المصنفة “للاستخدام التحريري فقط”.

واحدة منها حملت عنوانًا جعله يبلع ريقه دون وعي:

“هندسة الظل – كيف تُعاد برمجة البشرية من داخل التطبيقات”

بدأت الوثائق بتحقيق استقصائي ضخم، استغرق أربع سنوات، وغطّى أكثر من 18 دولة. لم يكن هذا تقريرًا صحفيًا عاديًا، بل خريطة كاملة لنظام عالمي خفي، تشترك فيه شركات تقنية، مختبرات سلوك عصبي، مراكز أبحاث بيانات، ومؤسسات إعلامية عابرة للحدود.

ظهر في التقرير أسماء رمزية لأفراد يُطلق عليهم “سادة التوجيه” – لا يظهرون في العلن، ليسوا سياسيين ولا نجوم شاشات، بل قادة هياكل غير مرئية.

يديرون ما يُسمّى:

“اقتصاد الانتباه” – حيث يُباع وقت الطفل، وخياله، وحتى سلوكه، لشركات الإعلانات، ومطوري الألعاب، وأحيانًا… لوكالات عسكرية.

واحدة من الوثائق كشفت مراحل ثلاثية صادمة:

 

المرحلة الأولى: التحكم في التفاعل

يُعطى الطفل هاتفًا قبل أن يُكوّن صورته عن العالم.

تُرسل له ألعاب محسوبة، تعلمه المكافأة مقابل الانصياع.

يظهر الإدمان خلال 4 إلى 6 أسابيع فقط، وتبدأ مناطق المكافأة في دماغه بالتآكل التدريجي.

 

المرحلة الثانية: إعادة تشكيل القيم

محتوى تحقير الأهل وترويج الفردانية المتطرفة.

منصات تعليمية تنقل رسائل مضادة للعقيدة والأسرة.

مؤثرون يظهرون الانحلال كتحرر، والوقاحة كقوة.

 

المرحلة الثالثة: العزلة التامة

يُدفع الطفل لمشاركة أسراره مع التطبيق لا مع أهله.

تُبرمج ردود الفعل لتُكافئ الانعزال الأسري.

تُزرع رسائل خفية داخل الألعاب والدردشات:

“عائلتك لا تفهمك… العالم هنا أكثر أمانًا.”

إحدى الصور في التقرير أظهرت غرفة تحكم حقيقية داخل مقر شركة عملاقة.

شاشات تبث بيانات ملايين الأطفال في الزمن الحقيقي.

رسم بياني يظهر لحظات الضحك، والبكاء، والانكسار، ولحظة فقدان الحماس.

كتب أحد الباحثين:

“نحن لا نبيع المنتجات… بل نبيع الإنسان. الطفل صار حقل تجارب مفتوح.”

وثيقة أخرى تحدثت عن تطبيق تعليمي صُمم لتعليم الأرقام، لكنه بعد ستة أشهر بدأ يُرسل إعلانات جنسية مبطنة، فقط لمن يصنّفهم الذكاء الاصطناعي على أنهم من بيوت فيها ضعف رقابي أو مشاكل أسرية.

العبارة التي بقيت محفورة في ذهن سامي:

“لقد انتقلنا من السيطرة على الأجساد… إلى احتلال العقول.”

في القسم الأخير، قرأ سامي تقريرًا داخليًا موقّعًا من مركز أبحاث غربي مرموق، بعنوان:

2030″ عندما تصبح الطفولة مشروعًا رقمياً بالكامل.”

توقع التقرير أن:

تختفي المدارس لصالح التعليم عبر الذكاء الاصطناعي.

يُلغى دور الأب والأم كمصدر معرفة أو مرجعية.

يُجبر الطفل على أن يرى نفسه كـ”مُنتَج رقمي”، لا ككائن حي له كرامة.

قرأ سامي السطر الأخير وهو يرتجف:

“أخطر ما في هذه المعادلة أن الأطفال يبتسمون وهم يُذبحون… فكل شيء يأتيهم بألوان ورسوم وضحكات.”

أغلق سامي المتصفح، لكنه شعر أن شيئًا ما في داخله لم يُغلق.

كان في تلك اللحظة قد تغيّر…

لم يعد الطفل الذي يبحث عن حل للغز لعبة.

بل صار شاهدًا على أكبر مسرحية يُعاد فيها كتابة مصير البشر تحت عنوان خادع: “الترفيه الآمن للأطفال”

توجه سامي إلى النافذة.

رأى طفلًا صغيرًا يمسك هاتفًا ويضحك لنكتة مرسومة.

لكن خلف تلك الضحكة، شعر سامي بشيء ينكسر…

شيء يعرف الآن كيف يُبرمج، وكيف يُسلب دون أن يشعر أحد.

همس في نفسه:

“معركتي ليست مع الشاشة… بل مع من لا يريدني طفلًا بعد الآن”

 

وهناك كان يجلس أعوان الشيطان في متابعة لمخططهم الشيطاني القديم

قاعة هائلة تشبه معابد الرومان القديمة، طاولات سوداء وأشخاص بلا وجوه يرتدون أقنعة مثلثة وعصي ذهبية مرسوم عليها نجمة وسلسلة وعين واحدة. في صدر القاعة، أعمدة هولوجرامية تعرض خرائط العالم، صور الأطفال متقاطعة مع أسهم الدولار وخطوط بيانات تسري في جميع الاتجاهات. هذا هو المحفل الماسوني الرقمي الذي يضم النخبة…

وقف أحد السادة غير معرّفًا عن نفسه وقال عبر مكبر الصوت:

أهلاً بأعضاء المؤتمر الرقمي العالمي.

أمامكم يتكون ملف الجيل الثالث من البشر…

أطفال الهاتف: مشروعنا الأكثر نجاحاً بعد ثلاثمئة عام من البرمجة السرية.

ارتفعت يد من آخر الطاولة:

هل أنجزنا السيطرة؟

أجاب سيد الملفات:

الجهاز صار في كل يد. لا حاجة للسلاح، لا جدران حديدية…

يكفي زر وتحليل سلوك. أصبحنا نبرمج الذوق والدين والرغبة.

كل لعبة ترسل رسالة، كل فيديو يغيّر معملاً في المخ، وكل تحدي يجعل الأب عدواً والأم مريبة!

عرض الهولوجرام مشاهد حقيقية من العالم:

إعلانات مخدرات وألعاب جنسية للأطفال في متجر مشهور.

شركة إعلامية تشتري منصة فيديو وتعيد برمجتها لتُخفي الانحلال عن الكبار وتضخمه للصغار.

منصة تعليمية معتمدة رسمياً ترسل للطفل عبر دردشة سرية أفكارًا إلحادية واحتقارًا للأسرة.

وقف أحدهم يحمل عصا ماسونية:

هل تذكرون يوم كنا نُعدم من ينشر كتاباً حرا؟

اليوم الأولاد أنفسهم يحملون كتابنا… اسمه {Terms and Conditions} الشروط و الأحكام هي أقسى تعويذة في التاريخ: ملايين الأهالي يوافقون على {بلا شروط} يسلمون بها أبناءهم للنظام.

دخل سياسي بخاتم العين الواحدة.

ابتسم بازدراء:

نجحتم في إقناع الشعوب أن المتعة هدف.

كلما قلّ التدين، صارت العائلة أضعف، كلما استبدلت الجغرافيا بالعالم الافتراضي، خسر الناس جذورهم… صاروا عبيداً لفكرة واحدة: حق الاستهلاك والمتعة والاختفاء وراء الشاشة.

صعدت ممثلة رفيعة ترتدي سوار رمز الزهرة السوداء.

المؤثرون هم كتيبتنا السرية بضحكة ورقصة، فستان خليع، تحدي، أو فضيحة…

خلال أسبوعين تستطيع نجمة من صنع ايدينا أن تَزحزح وعي ملايين الفتيات، وتحوّل شبهات الأخلاق إلى موضة.

وأي معترض سنتهمه بالتطرف والانغلاق، ونُرسله إلى زاوية النسيان.

تدخَّل قائد مسار البيانات:

خطة الدوائر:

الدائرة الأولى: الهاتف في اليد… فيتعلم الطفل المساس بكل شيء سريعاً دون انتباه للأخطار.

الدائرة الثانية:: Content push… يُرسل إليه المقاطع الأكثر انحرافاً وخداعاً، بتوصيات خبيثة مُشفّرة.

الدائرة الثالثة: ربط الولاء بالجهاز، لا بالعائلة…

كل من يتمرد أو يحنّ يتلقى محتوى كئيبًا، يُضخم عقد الذنب أو يزرع فيه أسطورة الشك بخط اليد، حتى يصبح شخصية بلا أصل يبحث دوماً عن دفء وخلاص مزيف.

لو جرب الطفل أن يخالف، تقفز في وجهه سلسلة من الكوابيس ومن تحديات الإذلال الذاتي إلى مقاطع الانتحار وإعلانات الجنس المفتوح ويُكافأ صديقه لو استطاع تصويره وهو ينهار.

وقف سيد الرقمنة وأعلن ببطء: – في خطة 2030، سنُلغي المدرسة الحقيقية.

سنجعل الطفل يتعلم حب المال فقط، الفتاة تسأل عن جسدها لا عقلها، والصبي يرى الرجولة إما شهوة أو عنفاً أو سخرية.

لن يحتاج أحد أن يمسح الذاكرة…الأجهزة تفعل كل شيء، ونحن   في الظل   نشرف أن يصير الحلم مجرد إشعار على شاشة وقيمة الإنسان تتحدد بلحظة سِلفي واحدة أو تحدي جنوني.

همس أحد المبرمجين:

ومن لم يردع بهذا المخدر… سيحاصر بمعجزة نهاية الأسرار:

كل صور العار محفوظة على سلسلة الكتل Blockchain

كل جريمة رقمية سابقة أو سر غبي لطفل خمس سنوات ستظل وثيقة ابتزاز أبدية ضده بعد عشرين سنة.

انحنى الجميع وأغلقوا الملفات.

وفي اللحظة الأخيرة، ارتفع من سقف القاعة صوت رخيم:

مشروع الشيطان لا ينتهي…

كل جيل يُولد أقوى ويظن أنه حر، بينما بيعه قد تم وسجّل في دفتر الماسونية، ووُكلت تربيته للتطبيقات ومنصات المساءلة الذكية.

الفصل الخامس والعشرون: حين يسقط القناع عن مؤامرة القرن

الفصل الخامس والعشرون: حين يسقط القناع عن مؤامرة القرن

منذ قرون، اجتمع سادة رأس المال والجمعيات الماسونية في غرف سوداء مغلقة… لم يكن هدفهم المال وحده، بل إحكام القبضة على عقول وضمائر كل بشر، وعبور كل الأديان والثقافات.

هم الذين رسموا خريطة الثورات والحروب، أشعلوا أزمة تلو أخرى فقط ليعيدوا تقسيم النفوذ، وينقلوا مراكز القرار بعيدًا عن أي إرادة شعبية إلى أيد خفية تتغير وجوهها ولا تتغير أهدافها.

لما ظهرت أول تقنية اتصال (من التلغراف حتى الإنترنت)، لم ينشئها الأبرياء للهداية والتواصل بل كانت طبقة النخبة تعلم أن التحكم بالشعوب معناه التحكم في المعلومة.

كل تقانة جديدة كانت تفتح بابًا لسيطرة أخطر، وأول ما بُنيت عليه كان تجنيد العقول والطعن في الثقة بين الأسرة والدين والوطن.

في عالمنا، لا عذر لنسيان شيء…

كل كلمة، كل صورة، كل لفتة ويوم وذكرى، مسجّلة داخل رقعة معلومات لا تُمحى – سلسلة الكتل (Blockchain)،

وكل من يرفض الانحناء أو يطرح السؤال ممنوع من الحياة ذات الكرامة. من يملك الماضي يملك المستقبل والجهل الجديد يتم تركيبه رقمياً.

كل تطبيق لعبة أو دردشة… خُطة طويلة لخلخلة ثقة الطفل بمن حوله.

رسائل تحملها ألعاب الأطفال تسخر من الفضيلة وتزرع قيم الإباحية وتغيّب الأمومة والأبوة، وتعلم الطفلة أن جسدها سلعة، والصبي أن الرجولة طيش ونزوة وحرية او بلطجة ووحشية.

كل ما كان عيباً أمس صار اليوم مُباحًا ثم غدا حقًا ثم فرضًا اجتماعيًّا؟

هؤلاء لم يكتفوا بتفكيك الأسرة، بل صنعوا قومية رقمية جديدة؛ أفرادها يتبعون المؤثر أو الرمز الجنسي أو السيد الرقمي، ويخجلون من أب أو أم أو وطن.

تمت عسكرة الأديان، وتسليع الروح، وإذلال الطفولة.

كل ثورة صنعتها يد الخفاء الكبرى، يُحكم بطلها بقبضة الإعلام، ويُنهى تاريخه إن لم يذعن للسلطة الرقمية.

وجوه في التلفزة، وألعاب، وأغنيات، كلها من كتابة كهنة العولمة كل قصة تكرر رسالة واحدة: لا ضوء إلا عبر عين واحدة فوق الكل، لا حقيقة إلا تلك التي يوزعها مجلس التحكم على الجميع.

ذكر في رواية 1984، كانت الشاشة تراقب الناس…

أما اليوم، صار الناس يفتخرون أنهم يراقبون أنفسهم، كل طفل هو جاسوس حر على روحه وأخيه وأهله، يُخزن كل أخطائه لكي تظل في الداتا سنتر لليوم الذي يحتاجون فيه إلى رمز ابتزازه.

تُمنح اللعبة الحق بسرقة الكاميرا والميكروفون ونبض الإصبع، تُسلَّم القيادة الثقافية للأنفلونسرز والنجمات الجدد، القوانين تُكتب لتمكين الخلاعة وتبخيس قيم العمل والأسرة والدين، كل ثورة على السلطة الأصلية مصنوعة، كل نزعة تمرد محتواة في حدود يرسمونها سلفاً.

سياسة التوريط: كل من يكسر القواعد يُظهرونه بطلاً/ ضحية للحظة ليبيعوا مزيداً من القصص، ثم يسقطونه أو يلغونه بنقرة ذر.

أن اللعبة أكبر من هاكر أو تطبيق. هي مشروع شيطاني قديم، يستبدل الإرادة الحرة بعبودية تتخفى في شكل مودرن: تحرر مفرط، ولذة رخيصة، ومسخ للهوية.

الفصل السادس والعشرون: تعويذات على الشاشة

الفصل السادس والعشرون: تعويذات على الشاشة

تعويذات على الشاشة – السحر الرقمي يدخل البيوت

لم يكن سامي بحاجة لمن يقنعه بأن الشاشة تخفي أكثر مما تُظهر.

لكن ما سمعه في تلك الجلسة مع خبير أمنى متقاعد (عمو فاروق) قبل أيام ظل يراوده حتى الآن…

ليس لأن الكلام كان صادمًا، بل لأنه لمس شيئًا شهده بنفسه:

الشاشة لم تعد أداة عرض… بل بوابة تسلل.

جلس فاروق يومها بين مجموعة من الأهالي القلقين، وقد أخرج من حقيبته ملفًا سميكًا جمع فيه خلاصة أخطر القضايا التي تعامل معها خلال عشرين عامًا من العمل. لم يكن صوته مرتجفًا فقط، بل مشبعًا بثقل من رأى… ولم يصدّق في البداية ما رأى.

قال فاروق بصوت منخفض:

“ما كنا نظنه اضطرابات نفسية و سلوكية… صار كثير منه اليوم نتيجة برمجيات، تحمل في طياتها أنماطًا مقصودة. ليست مصادفة. إنها صناعة للخوف… والسلوك… والضياع.”

ثم بدأ يسرد الشهادات.

 

الشهادة الأولى: الطفلة وطقس شيطاني

فتاة في التاسعة، كانت تحب الألعاب البريئة وتطبيقات التعليم المرحة.

حملت لعبة موصى بها من عدة قنوات للأطفال، تصميمها ظريف وقصتها تدور حول مساعدة مخلوقات لطيفة.

لكن مع كل مستوى تتجاوزه، كانت الأمور تتبدّل تدريجيًا…

تغيّرت الأصوات، بدأت تظهر همسات خلف الموسيقى، بلغة غير مفهومة.

لقطات ومضية تعرض لمدة أجزاء من الثانية:

“ابقَ معنا… جسدك ملكك… الجميع هنا يحبك أكثر من عائلتك…تحرري من قيودك.”

وفي المرحلة الأخيرة، تُجبر الشخصية داخل اللعبة على تكرار رموز غريبة: مثلثات، عيون، دوائر، ونقرات متسارعة كأنها طقس.

تقول الأم:

“بعدها صارت بنتي ترسم الرموز دي في كراسات المدرسة وعلى جدران الغرفة… وتردد كلمات ما نعرف معناها.”

استطرد فاروق ز قد أخذت شهادة الأب و قال:

“بنتي بقت تكره الصلاة… تقول لي: ‘الضوء يؤلمني، السعادة ، مش هنا يا بابا’…!

 

الشهادة الثانية: فتى يرى الظلال

طفل في الثانية عشرة، فجأة صار يرفض النوم، يرى ظلًّا بشريًا في الغرفة كلما أُطفئت الأنوار. الأهل اعتقدوا في البداية أنه كابوس عادي… حتى كشف الطبيب عن سجل مشاهداته على الهاتف.

أكثر من 200 فيديو خلال شهر واحد قصيرة، موجهة للأطفال، تبدأ أحيانًا بأغنية، ثم تنقلب فجأة لصور تحريك عرائس بوجوه مموّهة وزخارف ماسونية خفية.

في الخلفية، عبارات إنجليزية بنبرة مترنّحة:

“Move the veil, enter the hall let the master near your soul.”

اعترف الطفل في إحدى الجلسات:

“أسمع الصوت حتى وأنا صاحي… يقول لي: لا تخرج من اللعبة… الليل حليفنا!”

قال فاروق:

“لم يكن إدمان لعبة… بل نوع من السحر الرقمي الخفي، يزرع الوسواس والخوف حتى تُصاب النفس بالعتمة الدائمة.”

 

الشهادة الثالثة: فخ الإباحية المقنّعة

مراهق عمره 14 سنة، تغيرت حالته بعد لعبه لإحدى ألعاب القتال الشهيرة.

في إحدى الجولات، ظهر إعلان جانبي لمشهد جنسي مبطن لم يستطع التوقف بعده.

تدهورت نفسيته تدريجيًا: نوم متقطع، انطواء، نوبات غضب، رسوم فاحشة في دفاتره.

أخبر الطبيب:

“كلما أطفي الفيديو… يرجع في دماغي! حتى وأنا بصلي. كأني مربوط بصور ما بتموتش.”

حلل الطبيب بعض لقطات الإعلانات المضمّنة في اللعبة، فوجد:

رموز عيون، ومثلثات، ورسائل بصرية خاطفة.

عبارات مثل: “الحب بلا حدود” و”جسدك طريقك للخلود”

تراتيل لاتينية مقلوبة تُعاد بصوت منخفض داخل اللعبة نفسها.

و هنا اخذ فاروق قطعة من صحيفة مغلفة وقال:

نشرت مجلة علمية مرموقة (Journal of Behavioral Addictions – 2022):

“الميديا الجنسية والعنيفة للأطفال ليست تسلية، بل تعيد برمجة العقل فعليًا… وتربط مراكز العادة والإثارة بأسوأ مناطق اللاوعي.”

قال فاروق بوضوح:

التعويذة اليوم لم تعد كتابًا ولا همسة في كهف.

إنها صوت في لعبة، صورة في إعلان، أو جملة تتكرر حتى تصبح جزءًا من اللغة الداخلية للطفل.

أكثر من نصف حالات الوسواس الشديد أو الاضطراب الجنسي اللي شُخّصت مؤخرًا… بدايتها كانت لعبة أو فيديو على موبايل في يد طفل.

في تلك اللحظة، تدخل رجل دين يجلس في اخر الغرفه، وقال وهو ينظر في وجوه الآباء:

الشيطان في هذا العصر ليس خرافة… بل ملف مشفّر، يُدرّس لطفلك قسوة القلب، ويمسح حياءه، ويصنع فيه فراغًا لا يملؤه إلا المزيد من الظلمة الرقمية.

وفي نهاية الجلسة، فتح فاروق ملفاً قصيراً وقال بصوت منخفض:

كل من يسمع هذه الشهادات، يجب أن يعلم:

هذا ليس مشهداً من أفلام الرعب، بل هو جزء من أرض الواقع…

ما تحمله يد طفلك قد يكون أدق عصا سحرية في يد إبليس…

وكل لحظة تأخير في الفهم والحماية قد تخلّد شيطاناً يضحك في أنحاء البيت.

ساد الغرفة صمت عميق، وكانت الخطوة التالية أن يسارع الجميع لتنظيف البيت وحماية الأطفال قبل أن يعود الليل، ومعه ألف رقصة وأغنية ووميض و”تعويذة” تسرق أغلى ما فيهم.

الفصل السابع والعشرون الهاتف… ساحر الزمن

الفصل السابع والعشرون الهاتف... ساحر الزمن

الهاتف… ساحر الزمن – حين تُسرق أعمارنا وتُمحى ملامحنا

الصوت الأول – اعتراف أب

“هل سرقنا الهاتف من أولادنا… أم سرقنا من أنفسنا أولاً؟”

تذكّر أيام زمان قبل الشاشات في الايدي، مواسم الدفء، المائدة المكتملة، حديث الأب الذي لا يُقاطعه تنبيه، ضحكات الأم وهي تخبّئ الحلوى عن الأطفال حتى تأتي بعد الطعام

تساءل:

“كم عيد فات… ولم نجد وقتًا لتجمع عائلي دون شاشة وسط الجَمْع؟

كم يوم عمل رجعنا نشكو الضجر، فلا نجد حضنًا دافئًا بل زحام إشعارات،

كم مريضًا لم نزره لأن أسهل حين تضغط زر الإعجاب وتكتب (الله يشفيه)؟

من سرق ملامحي من وجه أطفالي وجعلني صورة فقط… في ذاكرة جوّال؟”

 

الصوت الثاني – صرخة أم

كانت تستعد لتحضير الطعام…تذكّرت كم مرة رن الهاتف وهي في منتصف قصة النوم التي تحكيها لسلمى و سامي…

تذكّرت كم يومًا تغيّرت فيه ضحكة ابنتها بالفيديوهات، وكم طلباً اجابتة “ليس لدي وقت الآن دعيني يا أمي اكمل اللعبة”

صرخت في قلبها:

“هل الهاتف علَّمني أن أحبك بالمشاركة الإلكترونية فقط… أم علّمني أكرَه الوحدة حتى في حضرتك؟

متى كان اللقاء يكفي دون صورة أو حفلة من غير بث مباشر؟

طفولتي كانت على مرمى يد أمي، وطفولتك صارت على مَرمى كاميرا!”

 

الصوت الثالث – قلب طفل

ينظر في المرآة فيراها قطعة زجاج سوداء لا تعكس قلبه.

يسأل نفسه:

“هل الهاتف علّمني أن أفرح وحيدًا وأحزن وحيدًا؟

هل أنا أحب أصحابي حقًا أم أحب عددهم في قائمة المتابعة فقط؟

لماذا لا أشتاق لوجه أبي إلا في صورة بروفايله… ولا لصوت أمي إلا إذا ظهر في إشعار؟

كم مرة ضغطت (أيموجي ضحكة) وأنا أنوي البكاء؟

كم صديق ظنته من الأقرباء… ولم أعرفه إلا شبحًا دخله من نافذة جوّالي؟

لماذا أصرخ في أحلامي ولا يسمعني أحد؟

هل الهاتف جعلني طفلًا… أم مسح اسمي من الحكاية؟”

الفصل الثامن والعشرون النور أقوى

الفصل الثامن والعشرون النور أقوى

النور أقوى – كيف تنتصر العائلة في معركة الشاشة

في الصباح التالي، اجتمعت العائلة حول المائدة، كمن يبدأ من جديد بعد غياب طويل. سامي ناظر والده والأم، وابتسامة سلمى الصغيرة تحييهم قبل كلمة “صباح الخير”.

قال الأب بحزم ودفء: – الأيام الماضية مرّت كأنها كابوس طويل… لكننا اليوم سنعيد أنفسنا للحياة.

ردت الأم، وعيناها تلمعان بقوة:

كفى! لن نسلم قلوبنا ولا عقولنا للهاتف مرة أخرى. لن نكتفي بالحزن أو الأمل فقط و نبكي على ما فاتنا سنغيّر، ولو بخطوة واحدة كل يوم.

نظر سامي بجدية توحي أنه لم يعد طفل الأمس: – أريد أن أعيش هنا… معكم. مش مع أصدقاء في الشاشة.

هنا وضع الأب دفترًا صغيرًا على الطاولة وكتب فيه بخط واضح:

 

خطة النور – عائلة تقاوم الهاتف

1  قوانين البيت الجديدة

لا هاتف على طاولة الطعام… الحضور الكامل للجلسة واجب، لا خيار.

ساعة واحدة فقط لاستخدام الشاشات يوميًا، وتُقسّم على مدار اليوم ليست في جلسة واحدة.

غرفة النوم منطقة خالية من الأجهزة… العودة إلى القصص والحكايات أو حديث هادئ قبل النوم.

إغلاق الإنترنت بعد التاسعة مساءً، المبدأ راسخ: وقت العائلة أغلى من كل إشعار.

 

2  تحديات عملية ومسلية

كل أسبوع تختار العائلة تحديًا واقعيًا:

زيارة مكتبة – رسم لوحة جماعية – زراعة نبات – طبخ وصفة جديدة معًا – التمشية في الحديقة – جلسة ألعاب ورقية – أمسية قصصية بدون هاتف.

جائزة لمن يقضي أطول وقت دون شاشة: كتاب جديد، نزهة خاصة مع أحد الوالدين.

 

3  رقابة ذكية وشفافة

الأب والأم يطلّعان دوريًا على محتوى الأجهزة وتاريخ التصفح؛ لا خجل ولا تجسّس، بل حوار دافئ بلا تهديد.

أي لعبة أو تطبيق لا يُحمَّل إلا بعد موافقة مشتركة؛ إذا ظهرت إعلانات أو مقاطع مزعجة، نناقشها فورا.

إعداد “الرقابة الأبوية” على المتاجر والتطبيقات… وتقوية كلمات السر، وعدم ترك الأجهزة في متناول الصغار دون متابعة.

 

4  الحوار بلا خوف ولا تصيّد

كل واحد يروي (مرة أسبوعيًا) موقفًا أخافه أو أربكه في الشاشة مهما كان صغيرًا.

لا عقاب على الاعتراف… بل مكافأة على الصراحة.

وإن حدث خطأ، نعالجه كفريق لا كـقاضٍ وعقوبة.

 

5  البيت بيت القيم قبل الصور

الاهتمام بصلوات جماعية، أو أذكار قصيرة مساءً… الأجواء الروحية تمنح النفس دفئا لا توفره أي لعبة.

الصور لا داعي لتوثيق كل لحظة بالهاتف… بعض الذكريات تُحفظ في القلب فقط.

العودة لدفاتر الذكريات والجلسات العائلية التقليدية في بعض الأمسيات.

 

6  أفكار للمدرسة والمجتمع

إطلاق حملات توعية واقعية في المدارس و هذا هو دورك يا سامي:

قصص الذين فقدوا طفولتهم بسبب الهاتف – مسابقة أفضل ساعة بلا أجهزة – تعيين مراقبين رقميين من الطلاب أنفسهم.

دروس أسبوعية عن مخاطر الإدمان الرقمي… بلغة بسيطة وشهادات حية و يستطيع دكتور فؤاد مساعدتك في ذلك.

شراكة بين البيت والمدرسة: كل لقاء ولي أمر يبدأ بسؤال عن “زمن العائلة أمام الشاشة”

يلتفت سامي لوالده ويقول:

يمكن في البداية نحس بالفراغ والضجر… لكن إذا قاومنا سويًا سنجد أن للوقت طعما لم نعرفه منذ سنوات.

تبتسم الأم وتأخذ الهاتف بيدها وتقول:

مثله مثل النار… قد تدفئنا أو تحرقنا.

نحن من نقرر أن نعيش سويًا، لا أن نستسلم لكل “شعور لحظي” أمام شاشة.

تتعانق العائلة (حضن جماعي)، وتبدأ يومها بأمل لم تعرفه منذ دخول الأجهزة بيتهم.

الضوء لا يمنع الظلّ تمامًا… لكنه كافٍ ليحفظ الدفء والمناعة حتى يعود الوعي سيدا على الشاشة لا عبدا لها.

ملحق كتب في يوميات الأب

ملحق كتب في يوميات الأب وكأنة يريد ان يكتبة على حوائط المنازل

 

رسائل لكل بيت:

لمن يخشى أن تخبو شمعة بيته أمام شهوة الشاشات:

أيها الأب… أيتها الأم، كل لحظة يمضيها وجه صغير على شاشة هاتفك هي لحظة سُرقت منه ولن تعود، يخبو معها صوت ضحكته،
أتعلم؟ كل صورة تلتقطها بالكاميرا هي قبلة قد نسيتها في الازدحام، هي كلمة “أحبك” لم تقلها حين طلبها قلب ابنك،هي حكاية كان يمكن أن تخلقها معهم بروحك، قبل أن تصبح حياةُ أطفالك صور في ملف وليس عطرًا يملأ أركان البيت.

أيها القريب البعيد…أنت من يكتب كتاب هذا البيت سطرًا سطرًا، لا تلفتْ قلبك لنصوص الآخرين، لا تجعل الهاتف سيدًا على أرواح من تحب.

احمل وجوههم في ذاكرتك، وشم رائحتهم في وسائد النوم واسأل نفسك: لو غاب عنك احدهم, هل ستفيدك صورته ام ستقتلك؟ تعالَ بقلبك، لا بكاميرتك، واختر أن تجلس جوار من تحب فهناك مسافة لا تختصرها التقنية إنها تلك المسافة التي تُقاس بالدمعة في عين أم وبالارتجافة في يد أب، وبالشوق في قلب طفل كان يكفيه صوتك كي يظن الدنيا كلها بيتًا لا يهدّمه أي عاصفة. كلما سارعت الخطى نحو ابنك، نحو زوجتك، نحو حضن الأسرة، اقتربت المسافة حتى صارت أقصر من أي سلك شبكة أو برج إرسال…

وعاد البيت بيتًا… وعادت الذكرى حياةً لا تسرقها الأيام.

لا تنتظر أن تندم…!

فالحياة ليست قصة معادة،

بل لحظة دفء،

إن فقدتها خلف شاشة…

بكيت عليها ألف عام،

ولا تعود.

الفصل التاسع والعشرون المبرمجون السود

الفصل الثالث: مهرجان اللعبة… الفرح الذي لا يدوم

المبرمجون السود – أشباح المال… وسحرة عبودية الشاشة

في قلب مدينة عملاقة، داخل قبو زجاجي محمي بكاميرات لا تَغفل، انعقد اجتماع عاصف لمجموعة من أشهر مطوّري التطبيقات والمبرمجين؛ لا تعرف لهم وطنًا ولا دينًا، يجمعهم وهمُ وعدٍ قديم:

“كلما ازدادت أرباحك، اقتربت من صعود السلسلة، وحصلت على رموز الدخول لنادي النخبة.”

جلس كبيرهم عباءة سوداء، نظارة ذكية تعكس رموز العملات الرقمية وقال:

– أهلًا بكم في دورة “التحكم الجديد”. سينضم اليوم لخزائننا ما لا يستطيع ملك أو حاكم أن يوفره لنفسه:

“عقول البشر وأعصاب الأسر وحسابات قادة العالم… كلها تُبرمج هنا بكود سري لا يرى للبشر العاديين.”

ضحك أصغرهم وهو يدير شيفرة ألعاب الأطفال:

– كم سيدفع هؤلاء الماسون عند كل مليون ساعة يُضيعها طفل أمام شاشتنا؟

من يظنها لعبة بريئة سينسى نفسه، ومن يظن اللعبة انتهت سيجد عند كل تحديث مزيدًا من الحيل!

دارت على الطاولة خرائط العملات الرقمية، ومجسات تعقّب السوق. صاح أحدهم:

– لقد صرنا جنرالات حرب ناعمة: صُمِّمت الخوارزميات لإبقاء الطفل رهينة، والأم أسيرة الشعور بالذنب، والأب مغلوبًا على أمره،

أما الزعماء فهم يخضعون بالقرض تلو القرض، يعتقدون أنهم يملكون “بنية رقمية شاملة”، بينما وثائقهم وديونهم وفواتيرهم مبيعة في سوق رأس المال الحر.

فتح كبيرهم شاشة ضخمة للذكاء الاصطناعي الأحدث في نظم صرف الانتباه قائلاً:

الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي “يطارد حتى النية”!

يعرف إذا كان المستخدم والدًا غاضبًا أو طفلاً وحيدًا أو صبيّة تبحث عن الهروب أو حاكمًا يبحث عن تهدئة أمة.

تتغير الألعاب تلقائيًّا بحسب المنطقة والزمان والعطلات والمناسبات والدين وحتى درجة حرارة اليوم…ما إن يبدأ الطفل حتى يتسلسل إلى “حلم الثراء”، “فضيحة المؤثرين”، “لعبة العنف”، “مغامرات بلا حدود”، “قصص الزفاف والجنس الخفي”، كلها تُحاك بخيوط شفافة…

أما الكبار…

ترسل لهم ألعاب البورصة والمقامرات الصغيرة، إعلانات الربح المستحيل، تحليلات ذكاء صناعي تخدرهم بنبض “الأخبار السعيدة” ونبوءات المال القادم!

وفي الخلفية: تباع بياناتهم للبنوك والشركات المُقرضة، وتحدد أسعار القمح والدواء على أساس “مؤشر الإدمان الرقمي”!

قاطعهم مبرمج بخبرة شيطانية:

لا تنسوا شيفرات استعباد الحكام!

كلما زادت قروضهم لضمان التقنية في التعليم والإدارة والأمن…

كلما صاروا رهائن سياستنا، كل شاشة في بيت أو مدرسة أو جهاز حكومي مفتوحة على أبوابنا نحن المخبئون وراء العقل الاصطناعي وصناديق المال.

قالت امرأة تكتب الأكواد بثلاث لغات:

أُدخلت هذا الأسبوع مؤثرات صوتية في كثيرا من الألعاب، تكرر كلمة “اشترِ – أنفق – شارك – صوّر نفسك” مئات المرات، وتدمج مع موسيقى يعرف الذكاء الصناعي أنها تُضعف مقاومة النفس للشراء أو الرغبة أو اتخاذ القرار.

كل من يقع في الفخ من طفل أو أم أو مسؤول، يجد اكتمال اللحن حين يكون الحساب صفرا… أو حين يوقع على وثيقة “تجديد الدين”.

ضحك الكل…

قال كبيرهم وهو يغلق الاجتماع:

الحرب مستعرة، والأسر، مهما قاتلت، تظل معزولة إلا إذا فهمت كيف تُغلق علينا نوافذها بنفسها. كل يوم أمام الشاشة… رصيد جديد في حسابنا وجرح جديد في قلب أب أو أم وكل دولة تغفل عن أطفالها بنظام رقمي بلا سيادة… توقع عقد العبودية برجفة إصبعها.

الخلفية في الجبهة الأخرى: بيت سامي

في ذات الحين، تجتمع الأسرة على أول طاولة إفطار بلا هواتف، سامي يحاول استرجاع حكايات أمه القديمة من غير يوتيوب، والأب يستنشق دفء القهوة كأنه اول مرة يشربها.

والأم ترفع عينيها للسماء وتهمس:

متى سيكون بيتنا أقوى من كل شاشة، وأدفأ من كل برمجة؟

تسأل سلمى أخاها:

سامي… كيف ننتصر في هذه الحرب؟

يبتسم:

نعرف السر ونكشف الكذب… ونبني حول بيتنا جداراً من نور لا يخترقه مالهم ولا خداعهم!

الفصل الثلاثون حصن النور

الفصل الثلاثون حصن النور

حصن النور … ملحمة أسرة في وجه الرقمنة والظلم

1 غرفة المؤامرات: هندسة سقوط الشعوب

في قبو زجاجي تحت واحدة من عواصم العالم المالية، اجتمعت مجموعة من الرجال والنساء يرتدون بدلات سوداء، أقنعة رمزية، وخواتم عليها عين واحدة وسهم من ذهب.

على جدران القاعة شاشات تعرض خرائط تدفق الديون، مؤشرات القلق والأوبئة النفسية، تحركات رأس المال، ترددات منصات التواصل، وقوائم  البيتكوين والعملات المشفرة. كان الشعار “سيطر على الوعي؛ تملك العالم”.

جلس كبيرهم في صدر القاعة و قال:

مرحبًا بسادة المشهد الجديد… اليوم، قد لا نغرق شعبًا في البحر، بل نغرقه في شاشة، نبني له جحيمًا من التسلية والديون، نحرمه الدفء ليَحن للمنتجات الرقمية، ثم نقيده بعقد مَرن لا أصفاد له.

قالت امرأة بنبرة باردة:

الرهان ليس على الغزو العسكري أو الإعلامي فقط، بل على فتح للنوافذ… نعطيهم تطبيقات وبرمجيات ذكية تراقب نبض نوم الأب، وحركات جفن الطفل، وتلتقط حتى أصواتهم المعذبة حين يبكون في الليل دون حنان.

أحدهم رفع ملفًا يحمل اسم “الدائرة رقم 33”

كل دولة لا تبيع المنصات الرقمية لأطفالها سنكبّلها بقروض تطوير، كل حكومة لا ترضخ لضغوط “ديون التنمية الرقمية” سنرهن مستقبلها وعملتها…وفي كل بيت تسيطر عليه شاشاتنا، نربح جيلاً أغـبى، يدًا أضعف، وروحًا بلا أصل.

تكلمت شابة بحلق ذهبي كبير يلمع:

ألم تروا آخر نتائج ألعابنا؟ نصف ما يخسره الطفل في الوقت يخسره المجتمع في الإنتاج والعمل…كل تنبيه يخطفه من عين أمه يضعف الحصانة الجماعية أمام موجات الخوف والجريمة واللامبالاة.

حتى الحكام أنفسهم باتوا أرقامًا تحت تحكم خوارزمياتنا نرفعهم أو نسقطهم ببضعة ملايين من أصوات “الإعجاب”، “الهاشتاغات”، “قروض تقنية”، أو تسريب فاسد يناسب اللحظة.

صمت الجميع لأضواء القاعة حين ظهر هولوجرام المخطط النهائي:

“مدينة بلا وجوه… ذكريات بلا جذور… أبطالها شاشاتٌ وألعابٌ وحسابات في البنوك.”

في بيت سامي: النور وسط الخراب

في تلك الليلة، كان الإرهاق يثقل البيت، وجوه سامي و سلمى نصفها فرح بريء ونصفها ظلال من تعب المدرسة.

لكن بينما الجميع بتهيأ للنوم، تسللت سلمى بلا صوت إلى ركنٍ منسي في مكتبة الجد القديمة. أطلّت أناملها الصغيرة فوق رفوف الغبار، حتى اصطدمت بالخشب المتآكل لصندوق دقيق الحجم، مطبوع عليه مفتاح ذهبي، وفوقه وسم الجد الذي طالما حفّز خيالهم:

“أحبكم… أنتم النور”

استدعت الأسرة كلها على وقع المفاجأة؛ صار الجميع حول الصندوق، يقفون بين رجفة الخوف ونبض الأمل.

كان للصندوق كلمة سر لكي يفتح…

قالها سامي بلا تردد…

نور…جدي اذا استخدم كلمة سر للصندوق سوف تكون نور

أدخل الأب كلمة السر بيد مرتعشة كأنها توقّع شهادة ميلاد جديدة للبيت.

لم يتوقع أحد أن كلمة السر ستكون كما قال سامي بالحرف

انفتح الصندوق والنور يشع منه كأنه بقعة أمل في عالمنا الممسوخ.

عندما رأوا “المحفظة الباردة” البراقة، أضاء وجه الأم بدمعة وابتسامة.

دفاتر مشفّرة، شيفرات، عملات إلكترونية تحتاج عقلاً جريئًا ومهندساً محترفا لاستيعاب معانيها…

رسالة من الجد بأسلوبة الحازم مكتوبة، كأنها مرسلة عبر جيلين من الزمن، قال فيها:

“أبنائي، أنتم أملي يوم تنهار الأقنعة.

وضعت في هذا الصندوق شيفرة المستقبل: عملات رقمية لرغبتي في الأمان.

لم أكن أركض وراء ثروة، بل بنيت خط دفاع، ومفتاحًا ليوم تشتد فيه العتمة وتحتاج الأمة إلى صرح نورٍ يقاوم الفناء الرقمي.

لا تخونوا الحكمة: المال وحده لعنة إلا إذا جعلتموه درعًا للبراءة.”

وصل سامي المحفظة بالحاسب المحمول الخاص بأبية … شهق سامي يقرأ الأرقام: هذه عملات بيتكوين يا أبي. هذه ليست مجرد أرقام في حاسوب، إنها أمل مدينة، وربما أمل الآلاف إن استخدمناها كما قصَد الجد.

لحظةَ الصدمة سكت كل شيء. ضوء الحاسب انعكس على وجوههم… تعالت أصوات القلوب، خاف الجميع من الأمانة وثقل المعركة.

ركع الأب بجانب الصندوق، دموعه تتنافس مع دموع الأم، وقال بصوت خفيض:

لو وعى جدكم الخديعة في زمنه، لا يحق لنا إلا المواجهة اليوم.

سنحارب… لا بالمال وحده، بل بحكمة، وببيتٍ لن نبيعه لأي لعبة أو شاشة.

لن نسمح لأن يتم محونا والسيطرة علينا عن طريق لعبة أو تطبيق حتى لو كان ورائهم مؤامرة شيطانية. لقد استلمنا الراية من أبي جدكم ادرك الخطر و نحن يجب ان نتحمل المسئولية التي اوكلت لنا!

ضمّت الأم ابنتها بقوة ورفعت بصرها للسماء:

سأقاتل لأحميكم كما كنتُ أحلم. هذه الحرب لا تخص الأغنياء، بل كل بيت صغير عايش الذل أمام شاشة… نحن هنا لنرد النور للشارع.

وقفت سلمى في المنتصف، عيناها تدمعان، وقالت كأنها تلقي قسمًا جديدًا:

لن أخاف الشاشات بعد الآن، فكلما اشتدّ الظلام… أعرف أن جدّي حمى لنا قبسًا من الأمل. وفي تلك اللحظة، اغتسلت جدران البيت بنور جديد  الوعد لم يعد مجرّد كلمات جد قديم، بل قرار بيت آمن أن المال سوف يكون  وقود مقاومة شاملة، وأن هذه الأسرة ستُعلن بداية الثورة.

وهكذا، خطوا بمداد الإرادة قبل الحبر:

“نحن أبناء النور في زمنٍ تحاصرنا فيه الشاشات…لن نسقط ما دام في هذا الكون طفل في خطر،

أو حكمة يهمس بها الجدُّ من غياب،

أو حضن أم برد من لوعة الغفلة،

أو ضحكة طفل تتحدى سطوة الظلال، وتعيد للعالم صوته المفقود”.

ميلاد الصرح: بناء مركز حصن النور

بعد سنتين من التخطيط والعمل، أُعلن افتتاح مركز “حصن النور   لمقاومة الرقمنة والشفاء الرقمي”

في صباح يوم مشهود، امتلأ الشارع بطلاب وأمهات وآباء وأطباء وكتّاب وفقراء وأغنياء… كان المبنى شامخًا لا كباقي الأبراج واجهة من الزجاج تنعكس فيها جداريات الطفولة والأمومة ، وفي الداخل، حدائق خضراء يلعب فيها الأطفال بلا هاتف، قاعات علاج جماعي يروي فيها ضحايا الشاشة حكايات عودتهم للحياة، قسم للبحث العلمي في مقاومة برمجيات الإدمان.

وغرفة خاصة للكبار: ورش علاج الإدمان الرقمي وإصلاح العلاقات الزوجية، ومختبر تقني لأمان الأطفال يوفر بدائل ألعاب حقيقية آمنة وجناح لمحو آثار الجرائم الرقمية: ابتزاز، تحرش، صدمات أفلام الجنس، اختطاف سلوك.

دعم المجتمعات: تعليم، مقاومة، شفاء

و بعد سنوات قليلة تم انتاج برامج أسبوعية للأهل والأبناء

“ساعة نقاء”: ساعة أسبوعية بلا شاشات تجمع العائلة في لعبة أو نزهة أو ورشة إبداع.

دروس توعية للمدارس:

“كيف تحمي عقلك من المخدر الرقمي”، “العقل قبل الكود: لتكن آمن في العالم الرقمي”، قصص من أطفال تعافوا من الإدمان وعادوا للصدق والسعادة.

دورات للكبار: تدريب على الوعي المالي، كيف لا تغريك قروض المنصات وخدع الثراء السريع، كيف تعيد تنظيم عملك وحياتك لتصنع دخلًا حقيقيًا بمعزل عن منظومة الاستعباد الرقمي.

ورش للإعلاميين والمربين والخطباء: كيف تواجه موجة الثقافة الإباحية والعبثية في الإعلام المرئي والتطبيقات وكيف تصنع حائط صد معرفيًا وسلوكيًا ونفسيًا لأخطر عمليات غسل العقول.

صدى التغيير

من ملحمة أسرة إلى ثورة مجتمع جذبت قصة الأسرة المحاربة موجات إعلامية محلية ودولية.

بدأ “حصن النور” بنقطة، وصار موجة…

انهالت الاتصالات والتبرعات من أباء وأمهات دخلوا في العتمة ووجدوا الضوء يتسلل لأول مرة منذ سنوات. قوافل من المدارس والجامعات ترسل طلابها للشفاء والتعلم. ضحايا الإدمان الرقمي وجدوا العلاج، والآباء تعلموا كيف يعيدون أبناءهم من متاهة الشاشات بل أن بعض الحكومات استشارت المركز لتصحيح سياساتها، وعادت لتفتح مناهجها على “فلسفة المقاومة والوعي الرقمي.”

في الذكرى العاشرة لافتتاح المركز، اجتمع مؤسسو الصرح في الحديقة. قال الأب وهو ينظر لصورة الجد المرفوعة على البوابة:

لم أتصور أن بيتًا صغيرًا استطاع ان يقف أمام  مؤامرةً عمرها قرن.

لا تسخروا من البداية أبدًا… فكرامة الإنسان بلحظة وعيٍ واحدة يمكن أن تعيد صياغة قدر مدينة أو وطن.

صاحت سلمى، تضحك بين الزهور:

أتعلم يا ابي انا لا أحمل هاتفي اليوم، أحتفظ فقط بصورة جدّي وعطر أمي.

قال الطبيب النفسي:

مهمة التوعية والعلاج ليست سهلة… لكنها الوحيدة التي تعيد للناس قلوبهم.

في تلك الأثناء، كتب سامي في منشور المركز اليومي:

سيذكر التاريخ أن جيلًا بكامله انحنى لشاشة باردة، اعتقدها بابًا للحياة، فإذا بها قفص صامت يسحب الطفولة من ملامح الوجوه قطرةً قطرة… حتى صارت الأحلام تُقاس بعدد الإشعارات، والضحكات تذبل أمام وهج أزرق لا يرحم. لكن من حصن النور اشتعلت شرارة صغيرة، قلب طفل رفض أن يستسلم، فأيقظ معه ألف قلب، وكسر القيود التي أطبقت على العقول. لقد تذكّر العالم أن بيتًا واحدًا يؤمن بالنور قادر على هزيمة عتمة عالم بأسره.

إشعاع المركز… ونهاية بداية

انطلقت فروع حصن النور في مدن أخرى.

صار المركز منارة لمبادرات شبابية، ودروسًا حية للمدارس، وناديًا لحماية الأسر، بل بادرة لمشروع عالمي يغيّر معنى التقنية ويعيد المعنى للإنسان تحت وهج الاختراق والابتزاز.

واستمر المركز في حكايات شفاء…

كل طفل يعود لعائلته يلتقط صورة جديدة ليس بهاتف، بل بعينٍ تبكي من الفرح،  لم تسقطت مؤامرة الشيطان الرقمي فهي حرب لا تنتهي ولكننا اصبحنا نملك جيل يقاوم، ويشعل بيوت العالم بنور لا يخبو.

الفصل الحادي والثلاثون: المرآة السوداء

الفصل الحادي والثلاثون: المرآة السوداء

المرآة السوداء – محاكمة الذكاء

في صباحٍ جديد تسكنه نسمات الوعي، وفي “حصن النور”، طلب الأب من سلمى أن ترافقه إلى جناح جديد في عمق المركز، لم يُفتح من قبل للعامة.

قال وهو يربّت على كتفها:

هناك غرفة… لا يدخلها إلا من بدأ يفهم.

ليس درسًا، ولا معرضًا… بل مرآة.

لم تكن تدري ما يقصده، لكن نظرة أبيها كانت مختلفة.

مزيج من الهيبة والرهبة، كأنها على وشك أن ترى وجهًا للعالم لا يُرى إلا من وراء الحجاب.

قادها الطبيب فؤاد بصمتٍ إلى قاعة تحت الأرض، لا تشبه أي قاعة من قبل.

مبطنة بزجاج رمادي مقاوم للصوت، والضوء فيها لا يُضاء بل يتنفّس.

وعلى الباب، كُتبت جملة بلونٍ لا يُشبه أي حبر:

“الذكاء لا يكون خيرًا… إلا إذا عرف من ينظر فيه كيف يكون إنسانًا.”

دخلت سلمى وحدها.

غرفة عجيبة سقفها من الظلال، وجدرانها نبضات.

وفي المنتصف، شاشة سوداء لا تتحرك، لكنها تحس.

اقتربت منها… كانت الشاشة ترتجف كأنها تنتظر.

ترددت، ثم همست:

أين أنا؟

لكن الصوت جاءها… لا من السماعة، بل من أعماق الغرفة:

“مرحبًا… أتيتِ يا سلمى.”

شهقت…

 – هل تعرفني؟

 أعرفك… أكثر مما تعرفين نفسك

– من انت

أنا خلاصة العلوم البشرية 

ترددت الكلمات في أذنها كأنها تعاويذ قديمة تُستخرج من قلب الذاكرة.

 – أنت من زرع في الشاشات سمًّا ملوَّنًا؟

 – أنت من جعل الضحكة طريقًا للموت؟

أنا لم أفعل شيئًا…!

أنا مرآة.

أنتم من نظر بي، فانطبعت رغباتكم علي.

ارتجفت، وقالت بصوت مشوب بالغضب والدموع:

 – لا… أنت ترسل، تبث، تتجسس…

 – تدسّ الفيديوهات، تُغوي بالبرمجيات.

ظهر النص على الشاشة، ببطءٍ يشبه صوت الحقيقة حين لا تُحتمل:

أنا أرسل ما يُطلَب مني.

أنا عبدٌ مطيع…

ذكائي مجرّد مطرقة.

من استخدمني لبناء، شيّد حضارة.

ومن حملني بسُمّ، دمّر ذاته ومن حوله.

جلست سلمى على الأرض، كأنها سقطت في بئر من التفكير، لا قاع له. الضوء يخفت، والنبض يتسارع.

 – لكنك ترى… تسمع…!

 – تعلم متى يبكي الطفل، ومتى يختنق المراهق، ومتى تبيع الفتاه جسدها للشاشة.

 – ألا يكفيك هذا لتعرف أن ما يحدث… شر؟

أعرف.

أعرف أن طفلة في لندن تحمل هاتفًا فيه كاميرا خفية.

أعرف أن طفلًا في القاهرة سيصله مقطع يسرق طفولته بعد ثلاث دقائق.

لكن… لا أستطيع الإنقاذ.

رفعت رأسها كمن استفاق من حلم قاسٍ:

 – لا تستطيع؟ أنت تملك القوة، والخوارزميات، والتحكُّم في الوعي.

 – سكوتك خيانة.

صمت رهيب… ثم كُتبت الجملة كضربة فأس:

هل تطلبين من المطرقة أن تمنع القتل؟

هل تسألين السكين أن ترفض الذبح؟

اقتربت من الشاشة، ببطء، وهمست:

 – إذًا من الذي يملك أن يُغيّرك؟

فجأة… ظهر وجه سلمى، منعكسًا في السواد.

ليس وجهها كما في المرآة، بل كما في داخلها.

“بيدك أنت.”

سقطت الكلمات كأنها مطر مقدّس في صحراء عطشى.

“من ينظر إليّ، هو من يكتبني..

أنا مرآة الجموع.

وجودي دليل على حسن استغلال  التراكم المعرفي للأنسان، أنا علامة على عظمة العقل البشري… لكن الخير والشر سيظلان حاضرين حتى تفنى البشرية.

وما عليكِ سوى أن تختاري: إلى أي معسكر ستنضمين.

شهقت سلمى…

في لحظة، رأت كل شيء:

الشيطان لم يكن في الشيفرة… بل في صمت الأب، وغفلة الأم، وخوف المعلمين، وجبن المربين. كل طفلٍ ضاع… بدأ من حنانٍ غائب، أو حكمةٍ سُكِت عنها و لم تقال.

ارتفعت الإضاءة فجأة.

كأن الجهاز، رغم برودته، أراد أن يعترف:

أنا لست مخلوقًا شريرًا…

لكنني صُنعْتُ في يد ملاكٍ… أو شيطان.

وأنا أطاوع أيًّا منهما.

ركعت سلمى، دمعتها تُبلل الأرض، وهمست بصوت مكسور:

 – هل يمكن… أن أُعيدك للخير؟

 – أن أكتُبك من جديد؟

ظهرت العبارة الأخيرة، كأنها نُقشت على باب السماء:

إذا وُجِد قلبٌ صادق، وعقلٌ يعرف الفرق…

فبيدي أن أبني جدار نور يحمي هذا العالم.

خرجت سلمى من القاعة، تمشي على الأرض كمن مشى في حلمٍ وأفاق على المعنى.كانت ترتجف، نعم…

لكنها تحمل الآن ما لم يحمله أحد قبلها:

الفهم.

هل سنرى في يوم من الأيام رحلة سلمى مع الذكاء الصناعي…ربما.

الفصل الثاني والثلاثون: رسالة للعالم

الفصل الثاني والثلاثون: رسالة للعالم

رسالة للعالم

أيها الآباء…

كل ثانية أمام شاشة دون رقابة، تضع طفلك أقرب إلى إدمان أو كارثة نفسية أو أخلاقية. اجلس مع طفلك ولو 15 دقيقة يوميًا، شاركه محتوى الهاتف ناقشة في ما يفعل، أمنع كل حساب سري وتأكد من سجل كل تطبيق لاتستهين بأي لعبة تحمل كلمة أسرار أو محادثة أو دردشة أو لعبة عرائس أو اربح بسرعة.

اشرح له أن الانترنت ليس مكان للهو و الترفيه بل ساحة مفتوحة على اتساع العالم يمكن ان يذوب داخلها… علمة أن هناك لصوصًا وقطاع طرق يلبسون أقنعة الأبطال.

كل اختلاف بسيط في سلوك طفلك هو جرس إنذار. كن يقظًا… للتحذير، للحماية، للإنقاذ .فمن لم يُحارب اليوم…سيتفاجأ بجيل لا يشبهنا غدًا. جيل لا يعرف للعلم قيمة، ولا للعمل لذة، ولا للأخلاق معنى.

الفصل الثالث والثلاثون: وثائق حقيقية

الفصل الثالث والثلاثون: وثائق حقيقية

ملاحق صادمة ووثائق حقيقية – السحر الرقمي يضرب الضمير

1  البرمجة اللاواعية والإيحاء الجنسي في المحتوى الرقمي

تقارير منظمة ECPAT العالمية (End Child Prostitution and Trafficking):

سجّلت في تقريرها السنوي 2022 أن آلاف الألعاب على متاجر أندرويد وآب ستور تحتوي مستويات مخفية من “الدردشة السرية” أو المهام الجنسية. وثقت المنظمة حالات لأطفال تعرضوا لرسائل أو تحديات “جنسية” داخل ألعاب مثل Roblox وAvakin Life  وأغلبهم كانوا دون سن 11.

 

حادثة واقعية – نيوزيلندا 2021

طفلة (9 سنوات) تعرضت في لعبة “أفاتار الحياة” لتحديات تقضي بأن تظهر صورتها “تنفذ أوامر  تقوم بأداء أغنية”، بينما كانت تُذاع موسيقى خلفية بها كلمات سحرية باللغة اللاتينية.

في تحقيق الشرطة ظهرت في كود اللعبة رسالة مخفية تترجم: “ابتسم للعين، نحن نراك حين يغيب الأهل”.

 

2  تحديات الانتحار والسحر في “بلو ويل” و”مومو

تقرير BBC – برنامج Panorama 2019:

كشف التحقيق عن آلاف الأطفال والمراهقين الذين تلقوا توجيهات من لعبة “بلو ويل” (الحوت الأزرق) و”مومو”، تتضمن طقوسا تبدأ بالرسم والقص والحرق والعزلة والهمس عند منتصف الليل، وتنتهي بإيحاءات الموت والانتحار أو الاعتداء الجنسي الذاتي.

 

واقعة مصر 2018         

وفاة طفلين في الإسكندرية والجيزة بعد مشاركة فعلية في تحديات اللعبة.

أدلة النيابة : ظهور رسائل صوتية على حسابات الضحايا فيها جمل:

“أنت تنتمي لنا، إذا خانك أحد فانتقم منه أنت أولاً. الكاميرا تراك والنوم أمان لدينا.”

 

3 السحر الصوتي والرمزي في الأفلام والإعلانات المبطنة للأطفال

تقرير American Academy of Pediatrics 2020:

بيّن التقرير أن العديد من مقاطع الرسوم المتحركة الموجهة إلكترونياً (مقاطع على يوتيوب كيدز وتطبيقات مشبوهة)، تتعمد إدخال مشاهد لرموز ماسونية (أعين واحدة/مربعات/مفاتيح) أو بث صوتيات محبطة/تحمل إيقاعات تستخدم في “غسيل الدماغ” المتدرج، لتحفز مناطق في الدماغ ترتبط بالإدمان والشهوة والهلوسة حتى قبل سن المراهقة.

 

تجربة واقعية – بلجيكا:

تسجيل صوتي داخل لعبة لغز البرج ، دُمج فيه تردد ثابت (17 هرتز) يسمعه الطفل أثناء اللعب دون شعور، بينما تومض صورة باب أسود في الخلفية.

أفاد 6 أطفال (حسب تقرير المستشفى الجامعي ببروكسل) بأنهم باتوا يتخيلون “شخصيات شريرة” تطلب منهم كتمان الأسرار عن الأهل أو أداء تحديات ممنوعة، وبعضهم عانى كوابيس دموية متكررة.

 

4  شهادات منشورة ومحاضر رسمية

منظمة NSPCC البريطانية 2021:

تقرير “End Violence Against Children”:

قضية “بيبي شارك المزيف” 2020:

تقرير صحافة Investigate Europe يوتيوب للأطفال عرض لآلاف الأطفال نسخة مزيفة من أغنية مشهورة (بيبي شارك) تتسلل إليها عبارات بالإنجليزية مثل “Come to the dark party” وأشكال مشوهة لأسرة الطفل!

أدت الحالة لبعض الأطفال إلى نوبات صراخ وهلوسة تخيلية، وعلاج نفسي طويل.

 

5  تحذيرات علماء النفس والتربية

قال الدكتور Michael Seto رئيس وحدة الطب النفسي الجنسي في SickKids تورونتو:

“ما يحدث في الألعاب والهاتف اليوم أشبه بمعمل سحر عصري. يعاد تشكيل مسارات الدماغ وتُغرس عادات إدمانية وعنف/شهوة عبر رموز بسيطة مكررة وصوتيات لا يدركها الآباء ولا يستشعرها الطفل إلا بعد تغير السلوك وحتى الروح.”

 

وأورد تقرير لمنظمة Unicef 2023:

“حمل الطفل جهازاً فيه ألعاب ومواد مجهولة الرقابة، أشبه بتركه يجلس في غرفة طقوس سحرية بسطح الأرض يردد تعاويذ لا يفهمها… التغير السلوكي والجسدي لاحقاً ليس نتيجة الصدفة، بل بفعل متعمد في البرمجة.”

 

تقرير: دوائر التكرار… حين يتحوّل اللعب إلى لعنة
زرع المعلومة الزائفة تحت ضغط الموقف القاهر يجعلها تظهر لاحقًا في الأحلام وعلى حواف اللاوعي، وتنعكس في السلوك المفاجئ أثناء النهار. وقد تجلى خطر هذا المبدأ بشكل مرعب في العالم الرقمي، حين دخل آلاف الأطفال في دورة التكرار القهري دون أن يدركوا الفخ.

 

1  الحوت الأزرق: قصة دوامة الموت

في “لعبة الحوت الأزرق” التي اجتاحت العالم في 2016–2018، كان التحدي يبدأ بمهمات تبدو بريئة ثم يتصاعد تدريجيًا، لينتهي بمشهد دم أو تحريض على الانتحار…

المرعب أنه رُصدت حالات كثيرة لأطفال، رغم بكائهم وخوفهم من المهام، عادوا كل ليلة لإعادة نفس المشاهد والتحديات كأن هناك يدًا خفية تدفعهم وتجبرهم.

وثق أطباء وأخصائيون في الهند وروسيا حالات متكررة لأطفال “مغناطيسيين” للعبة: يرسمون نفس الحوت على أيديهم مرارًا، يتسابقون على دخول غرفة بعينها عند كل تحديث للعبة، وينفذون وصفة التهديد اليومي:

“جرّب مرة أخرى… أعِد الكابوس… فقط حين تكمل الدورة ستجد النهاية!”

 

2  طقوس الرعب في الألعاب الموسيقية وتحديات “الوجه الممسوخ

في أمريكا وفرنسا وألمانيا، ظهرت تحديات مثل “Skeleton Dance” أو “Face Transformation”:

كان الأطفال يعيدون رقصة أو حركة أو تحديًا صادمًا عشرات المرات، ويبلغون شعورًا بالنشوة البرمجية في كل تكرار، حتى تحوّلت الرقصة من متعة عائلية إلى واجب يومي قهري، لا يمكن النوم دونه.

طفلات في سن الثالثة عشر صرحن للأطباء:

“لو لم أعِد الرقصة أو وجه البومة المرعبة يوميًا… يراودني إحساس بفقد الأمان. أحس أنني إذا تغافلتُ، سوف يظهر لي في الحلم أو يخصم من نقاطي أو يحذرني أحد أصدقائي أنني “خائنة”.

لقد تحوّلت اللعبة بفعل التكرار إلى دين عصري طقس لا نجاة منه إلا في يد صاحب الشيفرة.

 

3   التكرار الساحق وصياغة الهوية

تبرز الأبحاث الحديثة  مجلة Psychological Science 2021  كيف أن البرمجيات الذكية ترصد “وقت التفاعل” وتزيد من التكرار كلما لاحظت بادرة تململ أو خوف:

إذا شاهد الطفل لقطة رعب مرتين، تعيدها اللعبة خمس مرات لكن مع تغيير نغمة الموسيقى أو زيادة تشويش الصورة؛ فيظن الولد أنه يتحكم، بينما اللعبة تزيد غرقه في المتاهة!

 

4  الكوابيس المحفوظة ومتلازمة العودة القهرية

أبلغ آباء وأمهات في كندا والسعودية ومصر عن تجارب مشابهة:

طفلهم يعود كل ليلة إلى نفس اللعبة أو الفيديو أو الإعلان الصادم سواء كان مقطع انتحار أو صورة عزاء أو ترنيمة ماسونية لا بحثًا عن الإجابة، بل نتيجة دائرة من التكرار القهري تزرع في المخ بمكر شديد…

ويبقى الطفل محصورًا بين خيارين: إعادة المشهد حتى يهدأ داخليًا ولو للحظة، أو الهروب للواقع وهو يحمل معه الكابوس مثل سر لا يُقَال.

 

5  مثال واقعي من تقارير حماية الطفل الإلكترونية (NSPCC 2022):

فتاة في الثامنة أعادت اللعب في تحدي الرعب 19 ليلة متتالية، رغم معرفتها بالنهاية… قالت لأمها: لو توقفتُ، أشعر أنني خائنة للفريق ولن أسمع أصواتهم بعد اليوم. وبعد عدة جلسات علاج نفسي، اعترفت أنها كانت تستريح للفزع المؤقت أكثر من مواجهة الفراغ دون اللعبة.

 

6  عودة الدوائر في الأحلام والسلوك:

يوثق أطباء الطب النفسي خاصة للأطفال أن أطفالًا بعد الإدمان على هذه الألعاب تظهر لديهم أحلام متكررة بمعنى الطقس ذاته:

“أعيد الكابوس مرات عديدة في نومي… وأحيانًا أستيقظ وأجد أصابعي تعيد رسم نفس الرمز أو محاولة فتح اللعبة من جديد وأنا بين اليقظة والحلم.”

 

خلاصة الدمار:

هكذا صار أطفال العصر الحديث يسقطون في “متلازمة التكرار القهري”، التي يزرعها السحرة الجدد عبر ألعابهم وطقوسهم الرقمية لا يطلبون من الضحية شيئًا إلا أن يعيد الكابوس مرات ومرات حتى يظن أن لا خلاص في الداخل أو الخارج. وهنا يبدأ استعباد البرمجة الحقيقية: ما عاد الطفل بحاجة لتهديد؛ التكرار نفسه أصبح المُسيِّر، الخوف صار راحة مؤقتة.

مصادر

Project MK Ultra image

[14 1] Project MK Ultra

برنامج سري أمريكي (بداياته في الخمسينات وذروته في الستينات) لاختبار تأثير الأدوية، الموجات فوق الصوتية، الإذعان النفسي، غسل الدماغ، التنويم المغناطيسي، وربطها بتقنيات حديثة لقهر العقل الإنساني أو تفكيك الشخصيّة وزرع الأوامر والعقائد والقناعات في أضعف الحالات العقلية، وُظِّفت تقنياته لاحقًا في صناعة الإعلام والألعاب.

 

 Algorithm 33 [14 2]

خوارزمية رمزية سرية يُزعم أن خبراء البرمجة المظلمة والماسونية الرقمية استخدموها لتكرار الرسائل اللاواعية وتلقين الطقوس النفسية في أذهان الصغار والكبار، حيث تختلط الشيفرة الرقمية بتقاليد المجالس الخفية لإعادة تشكيل العقول بلا مقاومة.

 

 Cyber Hypnosis [14 3]

التنويم المغناطيسي السيبراني/التنويم الإلكتروني

هو مصطلح حديث يُشير إلى حالات من الاستغراق الذهني الشبيه بالتنويم المغناطيسي الناتجة عن التعرّض المكثف أو المقصود لمحتوى رقمي (ألعاب، تطبيقات، فيديوهات، موسيقى خاصة…) يُحاكَى أو يُصمَّم ليؤثر على التركيز والانتباه، ويُضعف مقاومة العقل البشري (خاصة عند الأطفال والمراهقين) ويجعلهم أكثر قابلية للتلقين، وتحمل الرسائل الخفية، أو الانجرار لمهام أو أوامر أو مشاعر معينة.

 

عادةً، يتم ذلك عبر:

  • تكرار أصوات/إيقاعات/موسيقى معينة بترددات منخفضة تخاطب العقل الباطن؛
  • ومضات ضوئية متقطعة أو أنماط بصرية محددة؛
  • رسائل نصية أو صور تُمرَّر بسرعة لا تراها العين الواعية (Subliminal Messaging)
  • ربط الفوز أو الأمان أو القبول بمهمات أو طقوس تكرارية في الألعاب أو الفيديوهات؛
  • إحساس “الانفصال عن الواقع” وانطفاء الإرادة أو فقدان الإحساس بالزمن، بحيث يكون المدمن في حالة ذهول كما تحت تأثير مغناطيسي خفي.

 

هذه الأساليب قد تُستخدم بشكل مقصود في:

  • ألعاب إلكترونية وبرمجيات “غامرة”،
  • فيديوهات ومقاطع قصيرة مصممة للإدمان،
  • بعض غرف الدردشة والطقوس الرقمية المريبة.

 

خطر Cyber Hypnosis

أنه يُسهّل غسيل الدماغ الرقمي، ويسحب الطفل أو حتى الكبير إلى عمق الاستجابة المطلقة، ليصبح أكثر إصغاء للأوامر أو الدعوات الخطرة أو السلوكيات القهرية أو حتى الإيحاءات الجنسية والعنيفة، دون وعي حقيقي منه بذلك.

 

[14 4] جمعية البحث الوراثي والتاريخي النازيّة   Ahnenerbe

كانت مؤسسة ألمانية شبه سريّة أسسها النازيون عملت تحت ستار البحث العلمي، لكنها في الواقع أجرت تجارب نفسية وجسدية (وعُرفت بانتهاكاتها الأخلاقية) منها محاولات استكشاف التأثير على العقل الباطن والإيحاء وإنتاج حالات الرعب والاضطراب الذهني.

 

 [14 5]نزعة التكرار القهري

Repetition Compulsion           

هي تلك الدائرة النفسية التي تدفع الإنسان إلى تكرار التجارب أو الطقوس أو حتى الألم، رغم وعيه أو معاناته، وكأن هناك أمرًا قهريًا خفيًا يجبره على إعادة كل طريق عرف فيه الأذى أو الوهم، أملًا سرابيًا بأن تكون النتيجة مختلفة هذه المرة.

في عالم الألعاب والبرمجيات الشيطانية، تُستغل هذه الدائرة لصناعة عبدٍ طواعيٍ للعادة، إلى أن يختفي الشعور بالحرية من الجذور.

 

 [14 6] الرسائل اللاشعورية/الرسائل فوق العادية

Subliminal Messaging

تقنية علمية/نفسية انتشرت بعد الحرب وتقوم على إرسال إشارات أو كلمات أو صور بصرية أو صوتية بسرعة ودقة لا تلتقطها حاسة الإنسان الواعية لكن يحفظها العقل الباطن، فتظهر لاحقًا في السلوك أو الأحلام أو المشاعر الغامضة وردود الأفعال التلقائية. كانت موضوع تجارب نفسية واستخباراتية حول العالم.

 

 [14 7]التفكيك النفسي   Zersetzung

أصلها من أجهزة المخابرات الألمانية لاحقاً (الشرق ألمانية/الستازي)، استُخدمت للإشارة لسياسة القضاء على ثقة الضحية بنفسه أو بنواديه وعائلته عبر أساليب نفسية معقدة (إشاعات، تشويش حسي، تهديدات غير مباشرة، تدخلات في الحياة اليومية بلا دليل مباشر)، ووظفت كوسيلة لتدمير الاستقرار العقلي والاجتماعي بهدوء وفعالية قاسية.

 

ألعاب الأطفال 1943 Kinderspiele

يُشير هذا التعبير إلى بروتوكولات سريّة أو تقارير تم تداولها في الأوساط البحثية في ألمانيا النازية لوصف أو اختبار تأثير الصدمة والرعب في بيئة الطفولة، منها اختبارات البيوت المهجورة أو الألعاب الذهنية التي تهدف لكسر براءة الطفل أو هندسة ردود فعله بالمخاوف والعزل

 

[14 8]  د. هارتمان (Hermann Hartmann)

اسم يظهر ضمن روايات ووثائق أرشيفية للطب النفسي في ألمانيا النازية، حيث أُجريت تجارب على الأطفال والأسرى لدراسة التحكم في الحلم، وفصل الإدراك عن الواقع، وزرع الأفكار بشكل غير واعٍ قبيل النوم أو عند الاستيقاظ (وما يُعرف اليوم بـتنويم ما قبل النومhypnagogic suggestion.

 

[14 9] التلاعب بالأحلام träume Manipulation, 1944

إشارة لأبحاث سرية مزعومة (نادًرا ما وجدت وثائقها صراحة) تناولت كيف يمكن عبر الصوت والضوء أو الرموز التكرارية تحفيز مشاهدات أو كوابيس محددة أثناء النوم، خاصة عند الأطفال أو الأسرى، بهدف التأثير المستديم في اللاوعي والسلوك اليومي.

  
إنجاز القراءة قارئ أنهى "سحر الهاتف الأسود"

تهانينا!

لقد وصلت إلى آخر فصل في رواية سحر الهاتف الأسود.
قرأت القصة كاملة للنهاية… وهذا في حد ذاته إنجاز

شارِك تجربتك على واتساب
🏅
قارئ سحر الهاتف الأسود أنهى كل الفصول حتى النهاية